على هامش الاحتفالات بالذكرى الخامسة والسبعين لنهاية الحرب العالميّة الثانية وانتصار الحلفاء على الألمان، كتب الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتن مقالاً مطوَّلاً اهتمَّتْ به كلّ وسائل الإعلام الروسيّة والدوليّة، فقد بدا وكأنّ القيصر يضع العالم أمام استحقاقَيْن، الأوّل هو مراجعة التاريخ القديم من جهة، والثاني السعي في طريق صناعة المستقبل وكتابة تاريخ آخر للبشريّة من جهة ثانية.

يضيق المسطَّح المتاح للكتابة عن سرد وعرض ما جاد به القيصر، والخلاصة أنّنا أمام طراز سياسيّ وأمنيّ نادر للرؤساء والحكام، والفارق بينه وبين الرئيس ترامب يتجلّى واضحًا جدًّا في سرد أحاجي التاريخ وحكايا الإنسان.

يكتب بوتن وقد أضحى الرقم الصعب من دون أدنى منافس حول الخارطة المعولمة، وفي كلماته يدرك المرءُ أنّ الروس أُمّة عميقة الجذور، وأنّ نضالها مستمرّ منذ ألف سنة، وأنّ الخطأ الفادح الذي ارتُكِبَ في زمن رونالد ريجان ومن بعده بوش الأب، أي هدم الاتّحاد السوفيتيّ على ذويه كان يعني بالضبط تكرار الخطأ الذي ارتكبه الحلفاء ضدّ ألمانيا بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى وقاد إلى الحرب العالميّة الثانية.

هناك مقاربة في مقال بوتن والذي يهدف في الأساس إلى إظهار الدور الذي لعبه الاتّحاد السوفيتيّ في حسم الحرب العالميّة الثانية، مقاربة بين الإذلال الوطنيّ الذي عانى منه الألمان، وبين التجربة المريرة لبلاده منذ جورباتشوف ومرورًا بِيِلْتسين إلى أن استطاع الدبُّ العجوز التحوّل الى ثعلب لا يُقَيَّد.

يرى بوتن أنّ النازيّين لعبوا بمهارة على العواطف التي نَمَتْ في الأوساط الراديكاليّة الألمانيّة، والتي سعت للانتقام من الحلفاء وتخليص ألمانيا من "إرث فرساي" وإعادة البلاد إلى قوّتها السابقة.

كانت معاهدة فرساي رمزًا لعدم المساواة العميق، والحديث دار عمليًّا عن نهب الدولة التي كان يتوجّب عليها دفع تعويضات كبيرة للحلفاء الغربيّين استنزفت اقتصادًا، والحديث لبوتن، الذي يصل بنا إلى تعليق القائد الأعلى لقُوّات الحلفاء المارشال الفرنسيّ "فرديناند فوش" والذي وصف فرساي بأنها "ليست سلامًا بل هدنة لعشرين سنة".

هل يبعث القيصر برسالة للناتو على وجه التحديد من خلال ذلك المقال المثير؟

من الواضح أنه يرسم للأجيال المعاصرة صورةً عن العقليّة الغربيّة التي تمضي على أطر من البراغماتيّة التي لا تتغيّر، والدليل عنده هو أن تلك الدول التي تناصب روسيا العداء اليوم، هي عينها وخاصّة بريطانيا وأميركا، التي أسهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تمكين الفوهور هتلر من كلّ تلك القوّة التي حازها، حيث استثمرت مؤسّساتهم الماليّة والصناعيّة بنشاط في المصانع والمعامل الألمانيّة التي تصنع المُعِدّات العسكريّة.

يكاد القيصر في مقاله يلفت الانتباه إلى أنّ الحروب والمواجهات الكونيّة لا تحدث مرّة واحدة ومن غير أدنى مقدّمات، بل هناك أسباب عادة ما تختمر في النفوس كمشاعر، ثمّ لا تلبث أن يرسلها الحِسّ إلى العقل لتتبلور إلى أفكار، وعمّا قريب تجد طريقها إلى التنفيذ.

هذا ما حدث خلال الحرب العالميّة الثانية، والتي يصفها بوتن بأنّها لم تقع بين عشيّة وضحاها، ولم تبدأ بشكل مفاجئ، كما أنّ العدوان الألمانيّ على بولندا لم يحدث من العدم، فقد كانت وراء الأكمة الكثير من النزاعات والعوامل المتراكمة في السياسة العالميّة في ذلك الوقت.

يَعِنُّ لمن يقرأ مقال بوتن أن يتساءل: "هل لو كان هتلر قد وجد من يرفض توجّهاته ولا يسعى إلى استرضائه كما فعلتْ دول أوربّيّة كبرى، هل كان قد مضى في حربه الكونيّة المُهْلِكة؟

الجواب يقودنا إلى حتميّة الثنائيّات التاريخيّة عبر الزمن، فقد جُبِلَتْ الخليقةُ على الليل والنهار، الخير والشرّ، الحقّ والباطل، ولهذا فإنّ حديث القيصر فيه الكثير جدًّا من الإسقاطات السياسيّة على الواقع المعتلّ والمُخْتلّ، منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، أي خلال العقود الثلاثة الماضية، والتي توهّمتْ فيها الولايات المتّحدة الأميركية أنّها انفردتْ بمقدِّرات العالم، وأنّ نظامًا قُطْبيًّا أحاديَّ النزعةِ والتوجُّهِ سيدوم لزمن طويل.

من الماضي إلى الحاضر يستحضر القيصر الذي كسب مربّعات قوّة ونفوذ في السنوات العشر الماضية بصورة واضحة، واختصامًا من نظيره الأميركيّ، يستحضر صورة لروسيا التي هَبَّتْ ضدّ القوى الغاشمة المدجَّجة بالسلاح المدعومة بآلة الغزو النازيّ التي تمارس القتل بدمٍ بارد، حتّى ولو كلّفها الأمر نحو 27 مليون مواطن سوفيتيّ على الجبهات وفي الأسر لدى الألمان ومن الجوع وتحت القصف وفي أفران المعسكرات النازيّة، لقد خسر الاتّحاد السوفيتيّ واحدًا من كلّ سبعة من مواطنيه.

مقال بوتن مانيفستو جديد لروسيا على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وينبغي الرجوع إليه مرّة بعد مرّة، والتعمُّق في قراءته، وبنوع خاصّ حين يستشهد بما قاله الرئيس الأميركيّ "روزفلت" في 28 أبريل 1942، في خطاب وَجَّهه للأمّة الأميركيّة، معترفًا بأنّ القوّات الروسيّة دمَّرتْ وتواصل تدمير مزيد من القوى العاملة وطائرات ودبّابات ومدافع الألمان أكثر من باقي جميع الأمم المتّحدة مجتمعةً.

ولا يتوقّف الاستشهاد عند القائد الأميركيّ البارز، بل يمضي إلى قائد الإمبرياليّة البريطانيّ الأشهر "ونستون تشرشل"، والذي كتب في رسالة إلى الزعيم الروسي "جوزيف ستالين"، في 27 سبتمبر 1944 يقول: "إن الجيش الروسيّ هو الذي أخرج أمعاء الآلة العسكريّة الألمانيّة".

أيّ إسقاط يسعى إليه بوتن وهو يمدّ أطرافه لوجستيًّا برًّا وبحرًا وجوًّا إلى الكثير من بقاع وأصقاع العالم، متزوِّدًا بترسانة نوويّة وصاروخيّة فرط صوتيّة، وبأنواع من الأسلحة الجهنّميّة التي لم يُنْزِل الله بها من سلطان؟

نهاية المقال المطوَّل لبوتن تحمل السرّ، ونكاد نراه يدعو إلى يالطا جديدة، لكنّها ليست يالطا من أجل تقسيم العالم قسمة الغرماء بين المنتصرين في الحرب الكونيّة الثانية، بل من أجل المحافظة على المكتسبات وعلى الاستقرار الذي تمثّل للعالم بعد ذلك الانتصار الكبير من الحلفاء على الألمان.

بمعنى آخر إنّه يخبرهم بأنّ "الفَيْنق الروسيّ"، قد بُعِثَ من رماده من جديد وأنّه الآن من الندّيّة بمكان أن يحجز مقعدًا وثيرًا مريحًا على مائدة الكبار.

عَطَّلَ فيروس كوفيد-19 المستجَدّ جهود القيصر الساعية لعقد قمّة خماسيّة تشمل بلاده وأميركا وبريطانيا والصين وفرنسا، والتي تهدف إلى مناقشة تطوير المبادئ الجماعيّة في الشؤون العالميّة، والحديث بصراحة عن حفظ السلام، وتعزيز الأمن العالميّ والإقليميّ، والحدّ من الأسلحة الإستراتيجيّة، والجهود المشتركة في مكافحة الإرهاب، والتطرُّف، وغيرها من التحدّيات والتهديدات المُلِحَّة.

أمّا الموضوع المنفصل فهو اقتصاد العالم في ظل جائحة كورونا.

هل يسعى القيصر لإعادة رسم خريطة العالم؟ على الأقلّ هذا ما يُفكِّر فيه.