مازال الحاكمون في تركيا وإيران يعتبرون أنفسهم أوصياء على العالم العربي، وربما على العالم الإسلامي أيضا، متنطعين لمَهَمَّةٍ كانوا قد فشلوا في أدائها على مر الأزمان. وأغرب ما في الأمر أنهم يتجاهلون مسيرةَ التأريخ وانتقال البشرية إلى أوضاع مغايرة تماما لِما كان سائدا في غابر الأزمان.

وتطورَ الهويات الوطنية التي أصبحت راسخة، لا يمكن زحزحتها ولن يجدي التغني بـ(أمجاد) الماضي أو الحلم بعودة الهيمنة الاستعمارية الفارسية أو العثمانية، معها نفعا، لأن شعوب وبلدان المنطقة، ومعها المجتمع الدولي، ستواجهها بقوة.

الشعوب العربية لم تعد تتقبل الهيمنة الأجنبية تحت أي مسمى، خصوصا المسمى الديني، فالإسلام نشأ وترعرع بين العرب، والقرآن نزل بلغة العرب، وهم من نشره وأوصله إلى بقاع الأرض المختلفة، بالحكمة والموعظة الحسنة، وإن كانت هناك شرعية لأحد لأن يحكم باسم الإسلام، فهي للعرب وليس لغيرهم. مع ذلك، فالعرب لا يريدون الهيمنة على أحد، لا باسم الدين ولا تحت أيِّ مسمى آخر.

تركيا الأردوغانية تتدخل اليوم في العراق عسكريا بحجة وجود حزب العمال الكردستاني على أراضيه، وترسل جيوشها لتجتاح العراق وتبقى فيه، وتفعل ما تشاء تحت هذه الحجج الواهية.  وإن وجدت خلايا ناشطة لحزب العمال في العراق، وهذا أمرٌ ليس مؤكدا إذ لم تسجل أي اعتداءات على تركيا منطلقة من العراق، فإن هذه المَهَمَّة هي مهمة عراقية، وعلى تركيا أن تتحاور مع الدولة العراقية حول هذا الأمر، بدلا من أن ترسل جيشها ليحتل أراضيَ عراقية، في انتهاك صارخ للسيادة وقيم الجوار والعلاقات الاقتصادية المتطوة بين البلدين. من واجب العراق أن يمنع أي تهديد عسكري ينطلق من أراضيه إلى بلدان الجوار جميعا، وإن كان هناك تهديد، فيجب أن يُبحَث مع الحكومة العراقية، وعند تلكؤ الحلول الثنائية، يمكن حينئذ اللجوء إلى الأمم المتحدة.

وتركيا تتدخل في سوريا أيضا بحجج مماثلة وتساند قوى معينة ضد أخرى وتقتل وتفتك بكل من يعارضها هناك، خصوصا الأكراد الذين عانوا من تعسف النظام السوري، ويعانون اليوم من التدخل العسكري التركي الذي سلط القوى المؤيدة لتركيا على الآخرين. لا يمكن تبرير التدخل العسكري أو السياسي، مهما كانت المبرارت والمسوغات، فالدولة التي تتدخل في شؤون دولة أخرى، إنما هي لا تعترف عمليا بسيادتها، أو أنها لا تحترم هذه السيادة، بل تعتبر نفسها أحق منها في تقرير مصيرها واختيار النظام السياسي الذي يحكمها.

وإن كان العراق وسوريا يجاوران دولة أردوغان السلطانية الجديدة، وربما يوجد بعض الاحتكاك الاضطراري بينهما وبين تركيا، وأنهما مضطران للتعامل معها وتحمل تدخلاتِها في بلديهما، فما الذي يدفع السلطان الحالم، رجب طيب أردوغان، إلى التدخل العسكري في ليبيا التي تقع في قارة أخرى وتنتمي إلى قومية أخرى وثقافة أخرى؟ ألا تكمن خلف هذا التدخل نوايا عدوانية وخطط استعمارية وهيمنة ثقافية وسياسية واقتصادية، ليس فقط على ليبيا، وإنما على عموم المنطقة العربية؟

كل الدول العربية استشعرت خطر التدخل التركي في ليبيا، وفي ليبيا تحديدا، لأنها أبعد ما تكون عن تركيا وثقافتها وسياساتها ومشاكلها. فإن كانت الدول البعيدة قد تحسست هذا الخطر، فكيف بمصر، التي ترتبط بوشائج قومية وثقافية وجغرافية وسياسية واقتصادية بهذا البلد الملتصق بها؟ الشعور المصري بالخطر التركي له أسبابه الموضوعية والوطنية والقومية. فمصر لم تسعَ للهيمنة على ليبيا، وكان ذلك ممكنا في السابق، إذا حاول العقيد القذافي جاهدا أن يدخل في وحدة اندماجية مع مصر، منذ استيلائه على السلطة في (الفاتح من سبتمبر) عام 1969، لكن المصريين، وبالأخص في عهد الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك، رفضوا هذه المقترحات وأصروا على سيادة ليبيا واستقلالها ووحدة أراضيها.

ومازالت مصر تدعم وحدة أراضي ليبيا، عبر دعمها الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق خليفة حفتر، الذي يسعى إلى توحيد البلاد ومنع التدخل الأجنبي وسيطرة المليشيات الإرهابية عليها، وهذه الأهداف مشروعة وتصب في مصلحة العالم العربي، الذي يريد أن يرى دولة متماسكة مستقرة في ليبيا ،تخلو من الجماعات الإرهابية التي تسعى إلى زعزعة استقرار المنطقة.

إن الموقف العربي المساند لمصر هو الموقف القومي والوطني الصحيح، فتركيا التي قطعت البحار والمحيطات كي تتدخل في شؤون بلد عربي بعيد، لم تأتِ من أجل الامن والاستقرار الليبيين، ولا من أجل تعزيز سيادة ليبيا على أرضها، أو دعم الديمقراطية الليبية والاقتصاد الليبي، أو السلطة الشرعية، ولا من أجل تعزيز الوحدة العربية، وإنما جاءت كي يكون لها موضع قدم في العالم العربي تحاول من خلاله أن تستعيد همينتها على البلدان العربية التي تحررت من هذه الهيمنة قبل قرن من الزمن. لم يكن العرب راضين سابقا أو مقتنعين بحكم الإمبراطورية العثمانية، ولهذا السبب ثاروا عليها أثناء الحرب العالمية الأولى، وسعوا لتأسيس دولة عربية ترعى شؤون العرب وتخلصهم من التعسف العثماني.

 إن كان أردوغان يعتقد بأن العرب سيتجرعون كأس السم هذا، أو أنهم، حقا "يحنّون" لأيام "الخلافة العثمانية"، فهو موغل في الوهم، وإن كان هناك من يوهمه بذلك فعليه ألا يثق بهم لأنهم قلة قليلة مضلَّلة تسعى لتحقيق مكاسب ضيقة. مازلنا نتذكر المآسي التي وقعت على العالم العربي في عهد تلك "الخلافة" التي حكمت باسم الإسلام، لكنها لم تقِم وزنا للعرب، حضارةً وثقافةً وأصالة، بينما كانت أرضُهم منشأ الإسلام ومهبطَ الوحي، ولغتُهم لغةَ القرآن، والسنةُ النبوية خُطّت في جزيرتهم وصيغت وفق ثقافتهم وأنماط حياتهم.

مازلنا نتذكر قصص أجدادنا عن قسوة وجشع تلك (الخلافة)، وجرائمِها التي لها أول وليس لها آخر، بحق الإسلام، وبحق الدول والأقوام التي انضوت، بالقوة أو الوهم أو النية الصادقة، تحت لوائها. وربما كان من أبشع تلك الجرائم، التي لا يمكن هضمُها، في أي ثقافة أو دين أو منطق، هو قيام السلطان يوم توليه السلطة بقتل أشقائه، أبناء أمِه وأبيه، (لوقاية الخلافة الإسلامية من تناحر الاخوة على كرسي السلطنة)! ولا أحد يعلم من أين جاء السلاطين و"الخلفاء" العثمانيون بهذه الفرية وألصقوها بالإسلام؟

ردود الفعل المصرية مبررة، فأردوغان تَدَخَّل في الشؤون المصرية وساند حكم الاخوان في مصر، ولم يكترث لثورة الشعب المصري ضد حكمهم وخروج 30 مليون مصري، في أكبر مظاهرة احتجاج في التأريخ، مطالبين الرئيس الأخواني بالاستقالة. وعندما أبى وتمسك بالسلطة، خلافا لمطالب غالبية الشعب، اضطر الجيش لتسلم السلطة، ملبيا نداء ملايين المصريين الساخطين من حكم الأخوان، الذي قدم الدليل تلو الآخر بأنه لا ينتمي لمصر وثقافتها وموقعها المعنوي في العالمين العربي والإسلامي.

لا توجد لدينا أوهام حول نوايا وخطط أردوغان في ليبيا، وكل العرب يدركون خططه ولا يصدقون تبريراته. فمساندتُه الاخوان المسلمين في مصر وبلدان عربية أخرى، تنطلق من مبدأ أساسي، وهو أن هذه الحركة قد تأسست ابتداءً، نعم ابتداءً، عام 1928، كاحتجاج على سقوط "الخلافة العثمانية" عام 1924 على أيدي الأتراك أنفسهم، تلك الخلافة التي أطلقت عليها دول العالم حينها بـ"رجل أوروبا المريض الذي يجب اقتسام ممتلكاته قبل وفاته".

إن كان الأترك أنفسهم لم يرتضوا تلك الخلافة واعتبروها خارجَ التأريخ والجغرافية،  فأسقطوها وأقاموا "الجمهورية التركية" محلها، فلماذا يتوقع أردوغان وأتباعُه العثمانيون الجدد، بأن العرب سوف يرحبون بها في بلدانهم وهم الذين لم يروا منها غير التتريك والتمييز والتخلف والتراجع والتعسف والإهمال؟ لقد كان حكم العثمانيين امتدادا للفترة المظلمة التي تلت سيطرة المغول على بغداد وإسقاطها الخلافة العباسية، أو ما تبقى منها، ولم تتحسن أوضاع البلدان العربية مطلقا، في أي اتجاه، بل أهملت الثقافة العربية إهمالا متعمدا، باستثناء فترة وجيزة في عهد الوالي مدحت باشا في العراق، الذي أنشأ مطبعة باللغة العربية عام 1869 وأصدر جريدة الزوراء.

وخير مرجع ديني لوصف الخلافة العثمانية هو كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) الذي صدر عام 1925 إثر إسقاط الأتراك الخلافة العثمانية، وأوضح فيه أن الخلافة ليست ضرورة دينية، ولا يوجد نص في القرآن أو السنّة النبوية يشير إليها، وأن المسلمين، وفق القرآن، أحرار في نوع الحكم الذي يرتضونه لبلادهم ولأنفسهم. بل قال أكثر من هذا، وهو إن الإسلام انتشر وازدهر في غياب الخلافة العثمانية التي قامت على القوة والقهر، وإن الخلافة هي مبدأ خاطئ، لأنه لا يمكنُ إنسانا عاديا أن يخلف النبي المرسل من الله.

المشكلة الكبرى في عالمنا العربي هي هؤلاء الذين يتقبلون الدور التركي أو الإيراني ويروجون له، وهؤلاءِ، إن احسنا الظن، هم منساقون وراء عواطفهم الدينية، لكنهم إن فكّروا قليلا ودرسوا التأريخ، فسوف يدركون بأنه لا الأتراك ولا الإيرانيون، يهمهم تطبيق الدين أو مصلحة المسلمين، بقدر ما تهمهم الهيمنة على البلاد العربية وإعادة (أمجادهم) السالفة باسم الإسلام وعلى حساب المسلمين.

الإيرانيون أنشأوا عشرات المليشيات ودربوها وسلحوها ونشروها في العالم العربي من أجل التمهيد لسيطرتهم على المنطقة، وباسم الإسلام أيضا. هذه المليشيات اليوم تواجه الحكومة في العراق وتطلق صواريخ الكاتيوشا على المطارات والمعسكرات والمؤسسات العراقية والسفارات الأجنبية وتختطف وتقتل الناشطين والمثقفين وترغم المسؤولين على توقيع العقود الفاسدة، مستخدمةً أسلحةَ الدولة وعجلاتِها وهوياتِها وإمكانياتِها وأموالَها. هل يمكن أن يصدِّق عاقل بأن هذه المليشيات، وإيران من ورائها، تسعى لمصلحة العراق؟ أم أنها تسعى للهيمنة باسم الدين وإعادة (أمجاد) إيران على حساب العراق؟

الدول العربية مدعوة لأن تتخذ موقفا مشتركا وقويا من هذه التهديدات التي ستطالنا جميعا يوما إن تركنا الأمر للصدفة. تحتاج الدول العربية اليوم إلى أن تساند مصر والعراق بقوة من أجل مواجهة خطري تركيا وإيران، فإن ضَعُفَت مصر والعراق وسوريا وليبيا ولبنان أمام التهديدات الإيرانية والتركية، فإن الدول العربية الأخرى ستكون هي الأخرى مهددة، لأنها موجودة أساسا ضمن مخطط الهيمنة الإيرانية التركية. يجب أن ننبه العالم إلى هذه الأخطار المحدقة بالأمن والسلم العالميين، لأنها ستعيد رسم خريطة المنطقة، وأن نشوء إمبراطوريات جديدة دينية سوف يهدد، ليس المنطقة العربية فحسب، بل باقي دول العالم.

نقول للحالمين بإعادة (الأمجاد) إنكم لن تتمكنوا من تحقيقها لأن هناك من يمنعكم ويردعكم، وشعوب المنطقة لن ترضخ لتهديداتكم وأطماعكم. ولكن يجب الاعتراف بأن القول وحده لن يقنع هؤلاء، مازالت المواقف العربية متفاوتة حول القضايا المصيرية. الموقف العربي الموحد هو الحل لمواجهة التحديات المصيرية.