"كل الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج"، "وعند القنط يأتي الفرج"، قولان مأثوران، وجب استحضارهما في مكامن مسيرة الأشواط الطويلة للملحمة الماراثونية للمفاوضات متعددة الضروب وكثيرة الصعد بين الفرقاء الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا طوال نيف وتسع سنين.
لكن الجميع نفس الصعداء يوم الجمعة السادس والعشرين من يونيو 2020، حين زف وزير الخارجية المصري سامح شكري للمصريين، وغيرهم بشرى التوصل للاتفاق النهائي المرتقب لتشغيل سد النهضة الإثيوبي بعد أسبوعين، فنزلت هذه البشرى بردا وسلاما على شعوب مصر والسودان وإثيوبيا.
لا جرم أن السادس والعشرين من يونيو 2020 يخرج عن روزنامة التاريخ العادية لدى جموع المصريين، الذين ترعرعوا منذ آلاف السنين عند مصب نهر النيل، بل لا نبالغ إن زعمنا أن ذلك اليوم يُبدئ العهد، والميلاد، والتقويم للمصريين منذ عام 3200 قبل الميلاد، وهو التاريخ الذي وحد فيه أبو المصريين وملكهم الفرعوني القطرين البحري والقبلي، فلم تجرب المحروسة مصر "هبة النيل" جائحة مداهمة لوجودها مثل المساس بشريان حياتهم بسوء.
منحت المادة 33 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة حرية للدول أطراف النزاع، في اختيار الوسيلة الملائمة لتسوية نزاعاتها، وبعد أن عددت هذه المادة بعض الوسائل، التي جرى العرف الدولي على استخدامها من قبل الأطراف، لفض منازعاتهم الدولية سلميا، أشارت المحكمة إلى إمكانية استخدام وسائل أخرى "يقع عليها اختيارهم"، لذلك يجب على الدول أن تختار الوسيلة التي تتلاءم مع ظروف النزاع وطبيعته.
وإذا عجزت الدول عن فض نزاعها بإحدى تلك الوسائل، فإنها تبقى ملزمة بالاستمرار في البحث عن تسوية نزاعها بوسيلة أخرى يتوافق عليها، كما يسمح الاختصاص الممنوح للمنظمات والوكالات الدولية في مجال تسوية النزاعات الدولية، بممارسة ضغط جماعي على أطراف النزاع من أجل استخدام الإجراء المناسب أو لقبول الحلول المقترحة عليهم.
لا شك في أن اختيار الدول وسيلة معينة من وسائل التسوية، لا يعني استبعاد الوسائل الأخرى، بل إن تعقد العلاقات والمصالح الدولية وتشابكها، قد يحتم استخدام أكثر من وسيلة، ويفرض مرونة كبيرة وتكيفا مع الظروف الخاصة لكل نزاع.
لا جرم أن الممارسة الدولية، أكدت استخدام الدول أكثر من وسيلة لتسوية النزاع بينها، بل ما فتئت الدول تلجأ للوسائل القضائية لتسوية نزاعاتها، مع استمراها في عملية التفاوض، أو عرضه على جهاز سياسي كمجلس الأمن أو الجمعية العامة أو منظمة إقليمية مثل الاتحاد الإفريقي، والآلية الأخيرة أضحت مثالا يدلل من دون شك على إمكانية تزامن أو تتابع الوسائل السلمية لتسوية النزاعات الدولية.
نافل القول، سبق لمحكمة العدل الدولية، أن رفضت حجة وجود مفاوضات نشطة ومستمرة بين طرفي النزاع يعرقل ممارستها لاختصاصها، وأعلنت أنه طبقا لميثاق منظمة الأمم المتحدة، والنظام الأساسي للمحكمة، فإن وظيفتها ووظيفة مجلس الأمن منفصلتان، ولا يؤثر على ممارستهما لوظيفة كل منها وجود مفاوضات جارية بين الطرفين.
جلي أن المثال الذي يزكي طرحي، قضية الموظفين الأميركيين الدبلوماسيين والقنصليين (الرهائن الأميركيين في طهران) فقد عُرض النزاع أولا على مجلس الأمن من طرف الولايات المتحدة، ثم عُرض على محكمة العدل الدولية بعد أربعة أيام من طرف الدولة عينها، وقضت المحكمة باختصاصها بالنظر في طلب الولايات المتحدة، رغم أن النزاع كان محل دراسة من طرف مجلس الأمن، وكذلك الأمين العام للأمم المتحدة، الذي طلب منه مجلس الأمن استخدام مساعيه الحميدة.
واستمرت المحكمة في نظر النزاع، رغم إنشاء لجنة من مجلس الأمن، كُلفت بتقصي الحقائق والاستماع إلى شكاوى إيران، والأمر الذي لا يخلو من وجاهة هو أن المحكمة قضت في القضية ذاتها بأن: "لا مانع من نظر مجلس الأمن المتزامن في النزاع ذاته، طالما لا يوجد نص يقر العكس".
لا عجب أن يتكامل ويتزامن كل من مجلس الأمن الدولي، والاتحاد الإفريقي بالنظر في تسوية النزاع بين الفرقاء الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا، خاصة في ضوء دعوة رئيس منظمة الاتحاد الإفريقي، رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامفوسا، الفرقاء إلى استئناف المفاوضات، برعاية الاتحاد الإفريقي، وقبل أن يكيف مجلس الأمن طبيعة الحالة في سد النهضة، أو يصدر أي قرار بشأنها.
لا مراء أن محكمة العدل الدولية حسمت السؤال المشروع الذي لاكته الألسنة، حول جواز تزامن الاختصاص الموضوعي لكل من مجلس الأمن الدولي ومنظمة الاتحاد الإفريقي، فقد أقرت المحكمة في قضية الرهائن الأميركيين لدى طهران التي أسلفنا فيها القول إن "لا مانع من تعهد منظمات عدة أو هياكل دولية بالنظر في نزاع واحد بصفة متزامنة"، واستنتجت المحكمة في الصدد ذاته إمكانية إعمال كل وسائل تسوية النزاعات بالطرق السلمية المنصوص عليها في المادة 33 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة، دفعة واحدة وفي نزاع دولي واحد.
ولا عجب أن قضاء محكمة العدل الدولية، الذي رفض دفع جنوب إفريقيا بعدم اختصاص المحكمة، في النظر والفصل في قضية جنوب غربي إفريقيا التي أقامتها إثيوبيا وليبيريا أمام المحكمة ضد جنوب إفريقيا عام 1962، مازال رنين ناقوسه يطن في آذان الرئيس سيريل راموفوسا، فحين دفعت جنوب إفريقيا بسبق تعهد مجلس الأمن في النزاع ذاته، حسمت المحكمة ذلك الجدل، وقضت بأن لا ضير ولا مانع من الممارسة المتزامنة لتناول النزاع ذاته من الهيئتين الدوليتين.
حري بنا في معرض العجب الذي أطبق على كل الألباب، أن نشير إلى أن الحل السلمي للنزاعات الدولية، لم يتحقق عن طريق استخدام الإجراءات التقليدية والاستفادة من المنظمات العالمية فحسب، بل عن طريق عدد كبير من المنظمات الإقليمية الدائمة.
ولزاما علينا أيضا، وفي معرض تناول الحدث المهيب، أن نشير إلى أن المنظمات الإقليمية ليست بدعة ولا أداة طمرتها الدول لصالح لجوئها إلى المنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة، فقد جربت " أثينا" ما يمكن اعتباره اليوم "تكتلات أمنية مشتركة"، أثناء حروب "البيلوبونيز"، وبدءا من نهاية العصور الوسطى، وفرت مشاريع سلام عديدة الإرهاصات الأولى للتكتلات الأوروبية، وترتيبات أمن أوربية جديدة، وقامت في وقت لاحق وكالات إقليمية مثل "لجنة الراين المركزية" عام 1832، و"لجنة الدانوب الأوروبية" عام 1856.
جلي أن المادة 52 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة هي "جهيزة التي عندها الخبر اليقين"، حيث تشير إلى أن قيام المنظمات الإقليمية، بمعالجة الأمور المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين، لا يعطل فحص مجلس الأمن أي نزاع أو أي موقف قد يؤدي إلى احتكاك دولي، ولا يعطل أيضا قيام كل عضو من منظمة الأمم المتحدة بتنبيه مجلس الأمن أو الجمعية العامة إلى أن نزاعا أو موقفا يقدر مجلس الأمن أن استمراه يهدد السلم والأمن الدوليين.