نشطت منظمة الشفافية الدولية قضائيا في الآونة الأخيرة ضد الفساد وسرقة المال العام من بلدان أخرى والإتيان به إلى دولٍ كفرنسا.
فقد نجحت المنظمة، بالتعاون مع منظمة المجتمع المدني الفرنسية، شيربا، في الحصول على أحكام قضائية من المحاكم الفرنسية بإدانة مسؤولين حاليين وسابقين من بلدان مختلفة، بينهم نائب الرئيس السوري السابق، وعم الرئيس السوري الحالي، رفعت الأسد، ونائبُ رئيس غينيا الاستوائية، ونجل رئيسِها الحالي، تيودورو نغومو أوبيانغ مانغو.
وقد أدين المتهمان باختلاس أموال عامة في بلديهما وانفاقِها في شراء سيارات رياضية فاخرة وتمويل نمط حياة باذخ، وبناء امبراطوريات عقارية وتجارية في فرنسا وبلدان أخرى.
وقد اعتبر رئيس منظمة الشفافية الدولية في فرنسا، مارك أندريه فيفر، تلك الأحكام القضائية إنجازا عظيما لمنظمته في مكافحة ما سمّاه بـ"الحصانة ضد الملاحقة القانونية" التي يتوهم بعض المسؤولين في بعض البلدان بأنهم يتمتعون بها لمجرد أنهم يتبوؤن مناصبَ رفيعة في حكومات بلدانهم.
بينما قالت باتريشا موريرا، المدير التنفيذي لمنظمة الشفافية الدولية، حول الحكم بحق نجل رئيس غينيا الاستوائية إنه "يوم عظيم لشعب غينيا الاستوائية، وإن هذا الحكم هو إشارة قوية لباقي القادة الفاسدين في مختلف أنحاء العالم بأنه لن تكون هناك حصانةٌ للفاسدين الكبار". وأضافت موريرا أن هناك حاجةً عاجلةً لتشريعِ قوانينَ جديدة تضمن إعادةَ الأموالِ المصادرة من الفاسدين الكبار إلى مالكيها الشرعيين.
وتطالب منظمةُ الشفافية الدولية بأن توضعَ إجراءاتٌ قانونيةٌ لمنعِ إعادة الأموال المصادرة من نجل رئيس غينيا الاستوائية إلى حكومة ذلك البلد، أو انفاقها ضمن ميزانية فرنسا باعتبارها أموالا فرنسية مصادرة.
وتبذل المنظمةُ جهودا حثيثة لإعادة هذه الأموال إلى شعب غينيا الاستوائية، باعتباره المالكَ الحقيقيَ لها. وقد أدانت المحكمةُ مانغو باختلاس حوالى 175 مليون دولار من الأموال العامة في بلده، وحكمت عليه بالسجن لثلاثِ سنوات وغرامة قدرها 35 مليون دولار، مع وقف التنفيذ.
أما نائبُ الرئيس السوري الأسبق، رفعت الأسد، فقد أدانته المحكمةُ الفرنسية باختلاس مئةِ مليون دولار من أموال الدولة السورية لشراء مجموعة من العقارات الثمينة في فرنسا، وحكمت عليه بالسجن أربعَ سنوات. كما أمرت المحكمة بمصادرة عقاراتِه في باريس ولندن.
وعلى الرغم من أنه من غير المتوقع أن يقضي الأسد حكمَ السجن الصادر بحقه، بسبب مرضه وتقدمه في السن، إذ تجاوز عمرُه 82 عاما، إلا أن مجرد إدانته من محكمةٍ فرنسية هي رسالةٌ لكل سراق المال العام في العالم الثالث على وجه الخصوص بأنه لم يعد هناك ملاذٌ لهم في أي بقعة من العالم. فمن يمدُ يدَه للمال المؤتمَن عليه، سوف تطالُه يدُ القانون مهما عظمت قوتُه أو سطوتُه.
ويمتلك الأسد عقاراتٍ كثيرةً في كل من فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، وتقدر قيمة عقاراتِه في إسبانيا وحدِها، والبالغ عددُها 507 عقارات، بأكثر من 760 مليون دولار. وقد تعرضت أملاكُه للتجميد في إسبانيا منذ عام 2017 بعد تحقيقاتٍ تتعلق بغسيل الأموال، طالته مع 13 شخصا آخرين.
وينفي الأسد التهمة التي أدين بها مدعيا بأن الأموال التي لديه كانت قد جاءته ابتداءً كهدايا من أصدقاء من خارج سوريا، وقد استأنف محاموه الحكم الصادر ضده على أمل الحصول على براءة.
لا شك أن الفساد مشكلة عالمية خطيرة جدا، خصوصا إذا كان متأصلا، أي أنه مقبول سياسيا واجتماعيا ومعمول به في مؤسسات الدولة دون خوف أو حرج، كما هي الحال في العراق الآن.
والفساد آفة، تحوِّل الدولَ المتماسكة القوية إلى مفككة ضعيفة، وتهدم الأسس التي يقوم عليها المجتمع الحديث وهي الثقة والمساواة والانصاف. كما أنه يضعف النمو الاقتصادي المستدام الشامل، ويترك تأثيراتٍ ضارةً على المجتمع والدولة، بل هو يزعزع أسس العقد الاجتماعي المعقود بين الدولة والمجتمع والقائم على العدالة والمساواة بين المواطنين، والذي ترتكز عليه الدولة الحديثة. كما يقلص إيرادات الدولة ويعيق الاستثمارات الداخلية والخارجية ويضعف التنمية المستدامة أو يلغيها كليا.
وكان صندوق النقد الدولي قد وضع مكافحة الفساد في أولى أولوياته منذ زمن بعيد، وبدأ منذ عام 1997 بجهود حثيثة لإيجاد الحلول الناجعة لمشكلة الحكم في عدد من البلدان التي تعاني من الفساد وسوء الإدارة. فالفساد في دول العالم المختلفة لم يعد ظاهرة وطنية تخص بلدا بعينه، بل أصبحت تأثيراتُه السلبية تطال الدول الأخرى، خصوصا مع سيادة مبادئ العولمة ونفوذ الشركات المتعددة الجنسيات وتداخل المصالح بين دول العالم. ولهذا السبب أصبحت الدول الصناعية التي تمول المنظمات الدولية وتهيمن عليها، معنيةً بتطوير أساليب الحكم الرشيد ومكافحة الفساد.
وفي مراجعة لإجراءات مكافحة الفساد عام 2017، اكتشف صندوق النقد الدولي بأن المبادئ التي وضعها لهذا الغرض، رغم أنها صحيحة، لكن التنفيذ لم يكن متَّسِقا كليا مع المبادئ المعلنة، وأن هناك مجالا واسعا للتعاون مع المنظمات الدولية من أجل التفعيل الأمثل لمبادئ وسياسات مكافحةِ الفساد المعتمدة.
وفي أبريل من عام 2018 شكل الصندوق هيئة متخصصة لمكافحة الفساد في العالم أطلق عليها "أطار العمل الجديد للانخراط المعزز لتطوير أساليب الحكم"، مهمتُها الانخراطُ المباشر في عملية مكافحة الفساد والعمل بشكل محايد وفعال وبصلاحيات معززة من أجل إصلاح أنظمة الحكم الإدارية.
وتنص المادة c. 57.3 من ميثاق الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على تشريع قوانين تساعد على إعادة الأموال المسروقة إلى أصحابها الحقيقيين، وهم الشعوب التي وقع عليها تأثيرُ الفساد، لذلك سيكون لزاما على فرنسا أن تعيد الأموالَ المصادرة في الحكمين القضائيين الأخيرين إلى شعبي كل من سوريا وغينيا الاستوائية.
لكن المشكلة، في غينيا الاستوائية على الأقل، هي أن الحكومة الحالية يترأسها أبُ المحكوم عليه، ما يعني أن الأموال قد لا تصل إلى الشعب.
الحكمان الصادران بحق الأسد ومانغو لهما دلالات عدة لشعوب ودول العالم الثالث، أولاها هي أن سارق المال العام لم يعد في مأمن مهما علت سلطته وبَعُد مكانُه، وثانيها أن الأموال المسروقة ستعود إلى أصحابها الشرعيين وإن طال الزمن، وثالثها أنه سوف يقضي حكما بالسجن على خيانته الأمانة، ورابعها أنه سيدفع غرامة إضافية على فعلته هذه للدولة التي أقيمت فيها المحاكمة، كما حصل في حالة مانغو الذي تلقى غرامة قدرها 35 مليون دولار بالإضافة إلى حكم الحبس لثلاث سنوات ومصادرة الأموال المسروقة، وخامسها هو أنه أصبح بإمكان الشعوب التي عانت الفساد، خصوصا في دول العالم الثالث، أن تلجأ إلى المحاكم الغربية لاستعادة حقوقها، حتى وإن حصل ذلك عبر منظمات مجتمع مدني غربية، مثل منظمة شيربا، التي تابعت قضيتي الأسد ومانغو حتى النهاية، وجمعت أموالا من الناس العاديين لدفع تكاليف المحامين.
لابد وأن فاسدين كثيرين في بلدان عديدة كالعراق، يشعرون بالقلق اليوم من هذين الحكمين اللذين تأخرا كثيرا، خصوصا في حالة رفعت الأسد الذي غادر سوريا عام 1984. أما مانغو فقد استغرقت الدعوى المقامة ضده 12 عاما كي تصل إلى نتيجتها النهائية.
وإن كان الأسد خارج السلطة الآن، وبالإمكان تطبيقُ كل الأحكام بحقه، فإن مانغو وأباه مازالا في السلطة، وهو بالتأكيد سوف يفلت من حكم السجن. لكن المحكمة الفرنسية سوف تتصرف بأمواله في فرنسا، إذ صدر حكم بمصادرتها.
كثيرون في بلداننا يتوهمون بأن من يهرب إلى الخارج سيكون في منأىً عن الملاحقة القانونية، ولكن هذه الأحكام القضائية، وملاحقاتٍ شرطويةً وأحكاماً قضائيةً أخرى صدرت بحق هاربين أعيدوا إلى بلدانهم لسرقتهم أموالا عامة، هي دليل صارخ على أن (الخارج) ليس ملاذا للهاربين، لذلك سيضطر سارقو المال العام في المستقبل إلى التمترس في بلدانهم لحماية أنفسهم بقوة السلاح بدلا من المغامرة في بلدان العالم التي تخضع لحكم القانون.
لكن المسروقين لن يسكتوا، والأسلم للسارقين في الدنيا والآخرة، هو خدمةُ شعوبهم وعدمُ استغلال مناصبهم للتجاوز على المال العام وحقوق الآخرين، فهذا لم يعد متاحا لأن القانون الدولي سيلاحقهم أينما ذهبوا.