مرّةً جديدة يعود التساؤل الذي لا ينقطع في الداخل الأمريكي منذ زمان وزمانين عن هويّة ذلك البلد الإمبراطوريّ، وهل أمريكا جمهوريّة علمانيّة أم دينيّة؟
ليس سرًّا أن السبب وراء الجدل الجديد القديم ما جرت به الأقدار خلال أزمة تظاهرات الأيام المنصرمة في الداخل الأمريكيّ، وما اعتبره البعضُ تجاوزًا في حقّ هويّة الدولة كما هي واردة في الدستور الأمريكي وكونها بلدًالا يرتبط بدين معيّن، كما أن حرية الدين والمعتقد متاحة لكلّ إنسان.
على أن الحقيقة المثيرة هي أن الولايات المتحدة الأمريكيّة، وفي إطار القاعدة التاريخيّة التي تحكمها "تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة"، تبقى دولةً علمانية الهويّة، لكنها مغرقة في الهَوَى الدينيّ، ذاك الذي يوجّه دفّتها منذ بدايات تأسيسها، لا سيّما إذ اعتبر الآباء الأوائل أنها أرض كنعان الجديدة، التي يفرّ إليها الهاربون واللاجئون من عسف وخسف الاضطهاد الدينيّ في أوربّا القديمة، في تشبيه لا يخفى عن الأعين مع قصّة بني إسرائيل وهروبهم من أرض مصر إلى أرض كنعان أي فلسطين.
الحديث عن أمريكا الدينية أو العلمانية يستدعي الإشارة إلى بعض الأرقام الخاصّة بالعام الحاليّ عن سكان الولايات المتحدة الأمريكية وسماتهم الإيمانيّة من عدمها، إذ تشير إلى أن سكان الولايات المتحدة البالغ عددهم نحو 340 مليون نسمة مُقسَّمون كالتالي: ستة وأربعون ونصف في المائة بروتستانت، وعشرون وثمانية من عشرة في المائة كاثوليك، وواحد وتسعة من عشرة في المائة يهود، وواحد وسته من عشرة في المائة مرمون، وتسعة من عشرة في المائة مسيحيّون آخرون، وتسعة من عشرة في المائة مسلمون، وثمانية من عشرة في المائة شهود يَهْوَه، فيما اثنان وعشرون وثمانية من عشرة في المائة بدون هويّة دينيّة.
ما هو مستقبل الحضور الدينيّ في الداخل الأمريكي؟
الجواب أيضا من خلال الأرقام الإحصائيّة لمعهد "بيو" الموثوق في الولايات المتحدة، وقد قدم خبراؤه دراسة عام 2015 تتعلّق بحالة العالم الدينية في 2050 نَخلُصُ منها إلى توجُّهات مثيرة حيث تتغير الأرقام، فعلى سبيل المثال سوف تنخفض أعداد المسيحيّين إلى ثلثي السكان بعد أن كانوا يمثّلون في العام 2010 خمسة وسبعين في المائة من سكّان البلاد، كما أنه خلال 35 سنة ستحلّ الديانة الإسلامية كثاني أكبر ديانه في البلاد، لتتجاوز البوذيّة واليهوديّة والكثير من الطوائف المَهِيبَة الأخرى.
لم يكن الرئيس ترامب استثناءً من رؤساء أمريكا الذين أظهروا قدرًا وافرًا– ولو ظاهريًّا– من الإيمان والتمسُّك بالمنطلقات الدوجمائيّة، فعلى سبيل المثال تحدّث الرئيس جونسون ذات مرّة قائلاً: "إن ديانته المسيحيّة اشتُقَّتْ من ديانة إسرائيل اليهوديّة"، فيما الرئيس الكاثوليكيّ الوحيد في تاريخ أمريكا جون كيندي، قد أكّد على أنّ "يَهْوَه هو الذي يحرس الولايات المتحدة ويحميها، لا الجيوش ولا الأساطيل".
لم يكن الرئيس الديمقراطيّ جيمي كارتر أقل حمية إيمانيّة من سابقيه، وهو الذي اعتبره الأمريكيون مؤمنًا حقيقيًّا من غير لافتات فاقعة أو أصوات زاعقة، ولهذا فقد صرّح أكثر من مرّة مشيرًا إلى أن إسرائيل: "هي الباب إلى المجيء الثاني"، تلك العقيدة التي يمضي في إثرها ملايين الأمريكيين وتشكّل ضاغطًا على عمليّة صناعة القرار السياسيّ تجاه القضية الفلسطينيّة على نحو خاصّ.
بدوره وعلى الرغم من خلفيّته الهوليوُوديّة، لم يختلف رونالد ريجان كثيرًا عن سابقيه، بل ربّما يكون هو أكثر رئيس تمثّلت الأصوليّة الدينيّة من حوله، وقد أقنعه قادتها بأن العالم في نهايات أيّامه، وأن معركة هرمجدون على الأبواب، أي معركة نهاية البشريّة، ولهذا عَمَدَ الرجل إلى بناء برنامج حرب النجوم أو الكواكب، وكان هدفه الرئيس أن يغطّي سماء أمريكا بشبكة من أشعة الليزر الصاروخيّة ما يمنع وصول أيّ صواريخ روسية إليها، الأمر الذي بدأ في استكماله مؤخَّرًا الرئيس ترامب.
كان بوش الأب وبيل كلينتون رقيقَيْ الحال مع إشكالية الجذور الدينيّة والإيمانية، إلى أن انفجرت الفقاعة الدينيّة في البلاد مع وصول بوش الابن الى سدّة الحكم أوائل الألفيّة الثانية، واعتبرت ولاتيه استعلانًا لخلط كلّ ما هو دينيّ بالحياة السياسيّة الأمريكيّة، بدءًا من منطلقات مجابهته للإرهاب وتقسيمه العالم إلى معسكرَيْن: واحد للخير وآخر للشرّ، ووصل به الشّطَطَ ذات مرّة في حديثه مع أحد المسؤولين الفلسطينيّين ادّعاءه أن السماء هي التي كلّفته غزو العراق.
على أن هذا الملمح والملمس الدينيّ الأمريكي تجتاحه في الفترة الأخيرة تغيّرات جذريّة ومعها يبقى السؤال: إلى متى تظلّ الروح الدينيّة قائمة على هذا النحو، لا سيّما في ضوء الانتفاضة غير المسبوقة التي واكبت زيارة الرئيس ترامب للكنيسة الأثرية القائمة بجوار البيت الأبيض؟
الشاهد أن هناك عدّة ظواهر ومظاهر تقودنا إلى الاعتقاد بأن العلمانية إن لم يكن الإلحاد المعاصر يختصمان يومًا تلو الآخر من أساسات أمريكا الروحيّة والإيمانيّة، الأمر الذي يمكن أن يُحدِثَ شروخات عميقة في الجدار المجتمعيّ الأمريكيّ.
أحد أوجه هذا الإلحاد وتلك العلمانية الجافة المسطّحة التي يحذّر منها الفيلسوف والثائر الفرنسي "ريجيس دوبريه"، تجلَّتْ في سنوات حكم باراك أوباما من خلال إقرار المحكمة العليا في البلاد بزواج المثليّين، وحقّهم في الارتباط الزوجيّ والعيش معًا كأزواج في كافّة الولايات المتّحدة الأمريكيّة من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب.
كان القرار الذي ينافي ويجافي الإيمان المسيحيّ، كما بنفس القدر يرفضه الإسلام، وتحرّمه اليهوديّة، عاملاً واضحًا في بدايات انشقاق حقيقيّ في الروح الأمريكيّة، يمكن أن يقود لاحقًا إلى حالة من العداء التي تهدد روح الاتحاد الفيدرالي نفسه.
أولى بوادر الفراق حدثت داخل المحكمة العليا ذاتها، إذ اعترض أربعة من القضاة في المحكمة على القرار، وصَوَّت خمسة لصالحه.
القرار عينه دفع قاضية أمريكيّة "ليندا برنيت" لأن تترك العمل بالقضاء، مفضّلةً بحسب قولها أن تطيع الله أكثر من الناس "سأطيع الله.. حتّى لو أطعتُ الله وحدي"، لكن على جانب آخر فإنّ قاضيًا آخر في ولاية "أوريجن " قد حكم بغرامة ماليّة كبيرة على زوجَيْن مسيحيَّيْن، يمتلكان متجرًا لتقديم حلويات الأعراس، بسبب رفضهما تزويد حفل زواج مثليّ، بكعكة العرس، لأن الأمر يناقض إيمانهما، بل وأكثر من ذلك أصدر القاضي قرارًا نهائيًّا مطالبًا الزوجين بالتوقّف التامّ عن التحدّث علانيةً بخصوص إيمانهم المسيحيّ.
هل حُسِمَتْ القضيّة؟
أغلب الظنّ أن الجدل الشعبيّ سيظلّ طويلا من حول أمريكا المؤمنة، العلمانيّة، أم الملحدة، وقد يكون هذا نتاجًا طبيعيًّا لفلسفة بَوْتَقة الانصهار التاريخيّة للشخصيّة الأمريكيّة.