السماء ملبّدة بغيوم ثقيلة، منخفضة، واعدة بأمطار، دون أن تجود بأمطار... الإصابات تجاوزت المائة ألف، ونعيق سيارات الإسعاف تعالى في "سالو" أيضاً، في حين استمرّ طواف سيارات الشرطة بالأحياء، مناديةً، من مكبّرات الصوت، بضرورة الإلتزام بتعليمات حظر الخروج.

في الخارج زحف الضباب، وأخفى مشهد الحقول المترامية في مسيرها نحو "كامبريلس"، ولكن صفّ أشجار البتولا لم يحتجب. في الأغصان هيمنت الوريقات البكر في ليلة، كأنّ الربيع شاء أيضاً أن يتحدّى، برغم هيمنة الوباء في أشجارٍ أخرى، مجهولة الهوية، قصيرة القامة، مستنبتة على جانبي الشارع الرئيسي، أينعت الأوراق أيضاً في ليلة، برغم الهبوط المفاجيء في درجات الحرارة، تلبيةً لنداء الجليد الذي استقرّ البارحة على قمم جبال "بارانايوس" التي تحجب الأفق. الأوراق الخضراء في أشجار الرصيف تتنامى مخترقةً كتل ثمار تيبّست في أعراف العام الماضي، ولكنّها ظلّت متشبّثةً بالأشجار، كأنها تنتظر إكتمال البعث في اليبيس كي تتنحّى. جنس هذه الأشجار يستولي على الأرصفة، ويزحف نحو مركز المدينة، حتى تعترضه حقول الزيتون التي تتلبّس "ميدان الأندلس" بالجوار، فيتخلّى ليتواصل في صفوف أخرى بعد اجتياز الساحة المغسولة بمياه النافورة، لتستقبل أشباحاً، تسلّم زمام أمرها لكلابٍ تشفع لها خرق الحظر المفروض على التجوّل، مسلّحةً بكمّامة تجيرها من بطش جرثومةٍ حوّلت الناس قنابلَ موقوتة.

في عتمة الضباب أتبيّن شبح جاري، متشبّثاً بتلابيب كلبه الحميم، عائداً من نزهته اليومية، فلا أملك إلاّ أن أعبّر عن امتناني للوباء جزاء صنيعه الذي أبقى الجار إلى جوار كلبه المسكون بالمسّ، ليجيرني من نباحه المسعور. ففي زمن الوباء فقط تصبح الكلاب حُجّة وجود. شهادةٌ على حضورٍ في الوجود. إعترافٌ بوجود. بل وثيقة يمكن إبرازها في عرض الطريق لإثبات هوية لها الحقّ في التنقّل، بل وتشفع لمُرافقها خطيئة كسر الحظر المستصدر في حقّ الخروج إلى الوجود. وهو تشريفٌ لم يكن لينال اعترافاً لولا تدخّل الوباء الذي جاء لإدانة الإنسان، وإنصاف أي شيء باستثناء هذا المخلوق المكابر الذي نصّب نفسه طاغيةً على هذا الوجود، فأقبل الوباء ليختاره خصماً في المبارزة، أَتَى ليوقظه من غيبوبته، وينزع عنه تيجان السلطان، ويحقّره إلى حدٍّ ينصّب فيه الكلاب لكي تكون له في محنة المنفى شفيعاً. الكلاب نفسها التي أنكرتها صحرائي، وسكنت ذاكرتي مسخاً منكراً منذ اقتنتها إحدى العائلات التي جاورتنا في تنقّلنا، لتغدو شبحاً مسلّطاً علينا نحن الصغار، لأنها منعتنا من الخروج إلى الخلاء، وكلّما حاولنا استغفالها انقضّت علينا بسرعة خاطفة لأنال نصيبي من أنيابها مرّتين، لا مرة واحدة، ولم ينتقم لي من شرّها سوى شقيق أمّي الذي أقبل علينا مرة، وعندما تمادت في مهاجمتنا، سدّد نحوها فوهة بندقيته في أحد الأيام لأشاهد الموت لأول مرة في حياتي.

كان ذلك الكلب الناصع، الشرس، يعاند عظماً في العراء، عندما ضغط شقيق الأمّ على الزناد فجعجع سكون الصحراء بالطلقة، فإذا بالوحش الرابض في البُعد، منحنياً على فريسته الأثيرة، يهوي. لم ينبح. لم ينتفض. لم يرفع عن العظم رأساً. لم يحدث أي شيء يمكن أن يدلّ عن أنه أُصيب. كل ما لا حظته هو كيف خرّ في وقفته أرضاً. خرّ بهدوء. خرّ ببطء محتفظاً بوقفته المنحنية على الأرض، حتى لامس الحضيض ليسكن هناك ككومةٍ من عهنٍ أو قشّ، ولم يتحرّك بعدها أبداً، لأدرك، بعقل الطفولة، أن هذا الإستسلام، هذا التلاشي، هذا العجز، هذا الإنسحاب البطيء، الوجيع، الذي ذهب بهذا الوحش الذي كان إلى وقت قريب بعبعاً لا نجرؤ على الإقتراب منه، لا نجرؤ حتى على الخروج لقضاء الحاجة مادام طليقاً، قد غاب من واقع الصحراء بهذه السلاسة، دون أن يحتج، دون أن يشكو، دون أن يحشرج، دون أن ينزف (لأني لم أرَ دماً حتى تلك اللحظة)، غاب بسلام، ولن ينهش أحدنا بنابه الشره بعد اليوم، هكذا بكل بساطة، و.. في غمضة!

لا أنسى كيف زعزعني الموقف، موقف كلب يموت، فلم يُكتب لي أن أنساه، لأن إحساساً بالشفقة تلبّسني، ليتحوّل فجيعةً سكنت الذاكرة على نحوٍ أنساني عدائي، وأيقظ في وجداني الطفولي ضرباً من تبكيت، رافقني إلى الأبد، كأنّ كراهتي لملل الكلاب هي المسؤولة على ميتة ذلك الكلب، وعليّ أن أفتّش عن طريقة أكفّر بها عن خطيئتي في حقّ الكلاب. فإحساسي بالتعاطف مع شقيق الأمّ في قتل الكلب، خلّف في ذاكرتي تركة مزدوجة الهوية كما أحاول أن أستجليها بمنطق اليوم، كأنّ عدائي الدفين هو سبب موت الكلب، أي أني شريك، على نحوٍ مّا، في المكيدة ضدّ الكلب الشقيّ، في وقتٍ لا أستطيع فيه أن أقنع نفسي باستعادة صلح مع ملّة الكلاب برغم كل شيء.

السبت 18 إبريل 2020 م

صارت الكمّامة بطاقة تعريف إلزاميّة في منطق الوقاية المعتمد في كل الدول بوصفها الترس الذي يلعب دور الوقاية من الكابوس، فإذا بالكمّامة تغدو علامة فارقة في واقع يهبها شرعيّة لأمدٍ لا محدود، لتتحوّل في حياة الناس قناعاً، لا مجرّد مكيدة للإحتيال على الوباء. فهي منذ اليوم رسالة. شعار. راية للبرهنة على وجود خلل في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، إلى الحدّ الذي استدعى اللجوء إلى هذه البدعة الجديدة التي تلقّفتها المؤسسات الصناعية لتتفنّن في استنزال مسوحاً جمالية في حقّها، لم تعهدها المؤسسات الصحيّة التي اعتمدتها تعويذة في إجراء العمليات الجراحية زمن السلم، لتصبح الكمّامة فجأة سلعةً نفعيّة، مبرمةً بحرف روح تجاريّة.

أي أنها تنكّرت لهويّتها الأصليّة، لتستعير هويّة القناع الذي اعتدناه بطلاً في فنون اللهو كالحفلات التنكّرية، أو الحِيَل التي ترتضي في الإنسان اللهفة إلى تغريب هويّته الحقيقية، وطرحها في واقع الأغيار عملةً لاستصدار فضول، كان في حياة الإنسان دوماً أفيوناً، لأن الإخفاء هو ما يثيرنا، وليس الإبداء. فبقدر ما نشمئز من الكشف، الكشف كعريّ، بقدر ما ننساق وراء المحتجب، المسكون أبداً بالإغواء. فالمرأة العارية تدغدغ فينا حواسّنا الحرفية، في حين تُميت فينا، بالمقابل، مواهبنا الحدسيّة، فلا نحتقر العريّ في المرأة إلاّ لتنصّله من الحياء، ليغدو إهانة صريحة موجّهة لقدس أقداس هو: الجمال. ولهذا لا تدهشنا وصيّة الحكيم القائلة بأن المرأة تتجرّد من الحياء مع تجرّدها من ثيابها. والدليل أن جمالها آنذاك ينقشع مهما تحلّى بخصال جمالٍ مدفونٍ في الستور، لأن الكشف صفعة موجّهة للمثال في هذه الحال، فلا نضمن أن يتنكّر حتى الحرف في جمال الجسد لهويّته كإغراء، ليهيمن في الصفقة ابتذال.

ولكن القناع لا يكتفي بلعب دور الوسيط في شحذ نصل الفضول، بل يأبى إلاّ أن يستعير دوراً نفعيّاً أيضاً. والدليل أمّة الملثّمين التي اعتمدت في تاريخها العرف الذي يتلثّم بموجبه الرجال ليخفوا وجوههم، في حين تكشف النساء على الوجود. وهي مفارقة نُسجت عن أسبابها الأساطير، ولكن مبدأ النفع هنا لن يتراجع برغم سلطة الأساطير، لأن واقع البيئة العصيّ يفرض اللجوء إلى تدابير حماية لن يكفلها سوى الإعتصام بالقناع للتصدّي لحملات الغبار، أو قسوة الحرّ، أو القرّ، وما شابه من عوامل طبيعة أقسى صحاري العالم، وأكبرها مساحةً كما هو الحال مع الكبرى.

وقد ساد هذا التقليد حتى غدا مع مرور الزمن لا مجرّد عادة، ولكن طبيعة ثانية ذات بُعدٍ مقدّس، حيث تمارس طقوس غيبيّة في حقّ كل فتى بلغ سنّ الرشد، وآن له أن يدشّن رحلة وجوده بلثام!

اللثام الذي ما لبث أن صار جزءاً حميماً من شخصية صاحب اللثام في حال اقترف إثم تجريد الوجه من هذا القناع، الذي لا يعود منذ الآن قناعاً، ولكنه هوية تعريف!

ففي رواية "واو الصغرى" لمحرّر هذا البيان يرد موقف مثير للفضول، حيث فقد عرّاف القبيلة عقله فخلع لثامه، وعندما مثل في حضرة الزعيم المعمّر "إمّامّا" كي يعالج في الرجل هذا الخلل الجسيم، لم يتردّد هذا الحكيم أن ينكره، ولم يعترف له بهويّة الصديق القديم، والساعد الأيمن، إلاّ بعد أن قام الأعوان بإعادة اللثام إلى رأس العرّاف!

فماذا ينتظرنا يا ترى في حال طال مقام الوباء في واقعنا، فيصبح احترافنا قناع الكمّامة ضرباً من بطاقة تعريف؟

عند بطاقة التعريف جديرٌ بنا أن نتوقّف.

فالواقع أن الكمّامة، أو بالأصحّ، القناع عندما يتحوّل، بحكم العادة، هويّةً، تنال السيماء بموجبه انقلاباً يصيب الملامح، فيتشكّل الوجه عضويّاً، لأن القناع يتماهى صميميّاً في التقاسيم، ليغدو هو البصمة التي لا تكتفي بأن تعيد صياغة البُنية، ولكنها تحتّم السيماء بوسمٍ لن يعدم أن يكون ميثولوجيا، على ذلك النحو الذي أحدثته خلعة الحكم في بدن مريد السلطة، في رواية "الورم"، بحيث غابت القطعة في لحمة الجسد، لتصبح مكمّلاً فيه، وليس مجرد جزء إضافي له، تلبيةً لذلك النداء الغيبيّ الذي يعيد صياغة وجودنا في الصميم، في حال الرغبة القصوى، ليبرهن لنا أننا لسنا شيئاً آخر غير ما نهوى. وهو ما يعني أن التغيير هنا رهين إرادة. إرادة ذات سلطان ميتافيزيائي، خارق في قدرته على إعادة خلق الخِلقة، لا على المستوى الخِلْقي وحده، ولكن على المستوى الأخلاقي أيضاً، أو الروحيّ، في عملية لإعادة تكوين، ما ظلّت استجابةً لتوقنا الدفين لإنكار واقع فينا، ولهفتنا لاستبداله بواقعٍ يسكن حرف القناع، فلا يعود القناع قطعة لإخفاء سيماء، ولكنه يغدو مع الوقت هو السيماء، يغدو هو الأصل، بعد أن كان مجرّد قطعة قماش أُلحقت بالسيماء كمزحة من باب اللهو، فتغترب السيماء بفضل الإحتراف، بفضل الإصرار، لتكتمل اللعبة في المسخ: المسخ الذي أردناه لأنفسنا، واستمتنا في صنعه، لأن ما نريده عميقاً، ونستبسل في طلبه طويلاً، هو حلمٌ قابلٌ لأن يتحقق بمشيئة عهدٍ مبرم مع القدر منذ الأزل.

فرسالة الوباء، في حال أخفق في سلب أرواحنا، أن يفلح في تغريبنا عن أنفسنا، بتزوير هويّتنا، مادام يتنكّر بدوره، مستعيراً هويّة تلك الدنيا التي يقول الحسن البصري أن دينها أن تقتل المقبلين عليها، ولا تتسامح حتى مع المدبرين عنها، حتى أنها آلت على نفسها أن تقتصّ منهم أيضاً بأن تجرحهم وهو أقل الإيمان.

فهل من مفرّ سوى اعتناق دين القناع، لأن القناع هو الحيلة الوحيدة التي تستطيع أن تقينا شرور وباءٍ إسمه: الدنيا؟