بدت المدينة أكثر وضوحاً الآن، اضواؤها تتلألأ كبساط من أنجم ساطعة. صوت هادئ يسري عبر أثير المكان يرسل تحيات وتوجيهات، ويسترسل في تفاصيل مملة، خلاصتها تعني الاستعداد والانتباه.
كم أحب هذه المدينة، وأحمل إليها، كلما أتيت، أشواقا دفينة لا تستوى وشوقي لأي مكان آخر. وحينما تلامس قدماي أرضها ينتابني على الدوام إحساس لم يتغير لسنوات طويلة، حب وشغف بجغرافيا المكان وتقاطيعه على الرغم من أن تفاصيله لم تعد تفاجئني بأي جديد، وبرغم ذلك أعشقها.
خطواتنا بطيئة ومتثاقلة، درجات السلم غير منتظمة، لا يمكن ترتيب إيقاعها. ذات الاتوبيس المدهش باضوائه الخافتة ومقاعده المهترئة يقف رابضاً أمام السلم، لربما تغير السائق لكن اللغة والثرثرة والضوضاء لم تتغير. كم أحب المطارات في عتمة الليل والوجوه المرهقة، وشخوص تتجول مسرعة حول طائرات ضخمة ستغادر بين لحظة وأخرى الى فضاء بعيد وبلدان قصية، ومسافرون يهمسون لبعضهم البعض بأصوات خافتة تمتزج فيها الاثارة بالقلق.
المكان يمور بجنسيات شتى وسحنات من كل بقاع الارض، وصفوف طويلة تفضي آخر الأمر الى شرطي يجتهد كي يبدو بشوشاً دون طائل، ووثائق سفر تفصلها عني آلاف الكيلومترات. يأتي دوري كي أثبت أن ما أحمل من أوراق هي لي، وأني من المحظيين الذين تسمح لهم الظروف كافة، أو بعضها ربما، بعبور هذا الخط السميك الذي يفصل بين عالمين يتنافسان في التضاد.
"ايه سبب الزيارة؟"
"زيارة أخي شقيقي، هو طالب في الجامعة.."
"إمتى كانت آخر زيارة لك؟"
"ما عارف والله، يمكن قبل سنة كده.."
يلتفت الىّ مجدداً ويسترسل في اسئلة لا نهاية لها ولا إجابة،
متى سينتهي هذا السخف؟ أنا مرهق وأود الخروج من هذا المكان الموحش..
"ممكن تاخذ راحتك شوية لحدي ما أرجعلك؟"
"حاضر يا سيدي..."
يأتي فوج جديد من القادمين عبر الردهة الطويلة، سحناتهم غربية، بعضهم يتحدث بصوت عالٍ مزعج وبعضهم يكتفي بابتسامة غامضة. ضابط الجوازات أمامي قابع في مكانه المألوف، هو ذات الشخص الذي يجيد تركيب الابتسامة البلاستيكية وتوزيعها بناء على تعليمات قادته.
يمضي الليل متثاقلاً إلى نهاياته ويبدو الأفق من نوافذ المنبى شاحباً يتعانق فيه الظلام مع خيوط فجر متقطعة. وأخيرا يأتي أحدهم نحوي.
"إنت ممنوع من دخول البلد !"
"ليه؟؟"
"اسال الباشا وهو يقولك..!"
"يا أخي انا كنت في البلد السنة الفاتت"
"هو احنا حنتكلم؟ انت تنفذ وبس"
"طيب خليني اطلع على أول طيارة"
"مش انت اللي تحدد على أنهي طيارة حتطلع، اتفضل أُدامي لما نشوفلك صِرفة..!"
وكأنني طويت صفحة في الكتاب الذي كنت أحمل بين يدي وفتحت صفحة جديدة في كتاب آخر، تغيرت تفاصيل المكان في لمح البصر.. أصبحت موحشة، قاسية ونائية. في ذلك القبو لا يوجد ثمة فرق بين الحياة والموت. كم هي خادعة تلك الواجهة المرصعة بالأضواء ترحيباً بالقادمين الآمنين تماماً مثلما هو مدهش هذا العالم الغامض الذي يقع أسفلها مباشرة، ويمور بمصطلحات وشخوص، وأسماء وألقاب، وذكور وإناث، ومسنين وأطفال.. لهجات عالمنا الوهمي تلاقحت وشكلت لغة لحالها، هنا الكل يمارس دورا بعفوية أو ربما بترتيب مسبق.
مع مرور الوقت ينتابني إحساس خجول بالألفة مع المكان بشخوصه ومكوناته. وفجأة يأتي صوت ألفته أذني: "يا أستاذ ممكن تتفضل معايا؟" هو ذات الشخص الذي أمعن في إهانتي قبل نحو عشر ساعات.
"إحنا متأسفين يا سعادة البيه، كان في خلط في الأسماء، حضرتك ممكن تدخل البلد"
نظرت إليه طويلا ولم أتحدث... أعاد تكرار الجملة وأضاف اليها، "البلد بترحب بيك.."
انتهت فترة استضافتي في دولة القبو سريعاً وصعدت درجات السلم المتهالك.. وقفت في آخر الدرج، والتفت نحو رفاقي القابعين في أسفل القبو، لم يكن أياً منهم يأبه لبقائي أو ذهابي.
تسللت في هدوء الى السطح والعالم أمامي لونان ومشهدان وفريقان، صورة لم تتبدل برغم انقضاء ثلاثة وعشرين عاماً على زيارتي القسرية لدولة القبو.