تُؤسَّس العلاقاتُ الخارجية بين البلدان من أجل خدمة المصالح المشتركة، وكلما كانت المصالح متداخلة بين بلدين، توطدت العلاقات بينهما ونمت وتشعّبت، وهذه بديهية في العلاقات الخارجية، تسير وفقها دول العالم الطبيعية. وعندما تغيب المصالح، تغيب معها العلاقات، حتى الدبلوماسية منها، فليس هناك دولة تمتلك سفارات في كل دول العالم لأن مصالحها لا تمتد على امتداد العالم.

أما في الدول التي تتحكم بها الجماعات الأيديولوجية، فالأمر مختلف، والعلاقات الخارجية فيها  تُسخَّر لنشر الأيديولوجية وتعزيز مصالح النظام السياسي، وليس مصالح المواطنين. دولة طالبان في أفغانستان مثلا، لم تهتم كثيرا لمصلحة البلد أو الشعب، بل اهتمت كثيرا لهدم تماثيل بوذا، فأغضبت العالم بأجمعه، خصوصا الدول البوذية المحيطة بها، ولم تهتم لتأسيس دولة حقيقية تخدم شعبها. إيران ما بعد 1979، أقامت علاقاتها مع الدول الأخرى على أساس خدمة مصالح النظام وأيديلوجيته الطوباوية البعيدة عن مصالح الشعب الإيراني، بل والبعيدة عن أي منطق سليم.

ومنذ عام 1979 والقادة الإيرانيون يبذلون جهودا حثيثة ويحاولون بخطى محمومة أن يصدّروا (ثورتهم) إلى العالم وقد أنفقوا في هذا السبيل مليارات الدولارات من أموال الشعب الإيراني المكبل بقيودهم وأيديولوجيتهم البالية، ولكن دون جدوى، فليس هناك من يرغب طوعا في استيراد هذه الثورة البائسة (حسب تعبير الراحل موسى الموسوي)، رغم تقديمهم شتى المغريات لأتباعهم والمتحمسين لثورتهم، من أموال وتسهيلات ووعود ودعم عسكري. شعوب البلدان المستقرة لا تريد أي ثورة لأنها تربك مجتمعاتها وتعطل أعمالها وتؤخر تطورها الذي يسير عادة بخطى طبيعية.  

الثورة حالة استثنائية تحصل عندما تتعطل مصالح الناس ويكون هناك انسداد سياسي وتراجع اقتصادي وإعاقة مقصودة لتقدم المجتمع يمارسها النظام الحاكم متوهما بأنها في مصلحته، وعندما لا يكون هناك أمل في الإصلاح، يسعى الناس إلى التغيير عن طريق العنف باعتباره الوسيلة الوحيدة المتاحة. الثورات لا تقوم إلا في ظروف نادرة وفترات متباعدة في التأريخ، والناس في الغالب لا يحبذونها إلا في حالات استثنائية حينما لا يوجد طريق آخر يمكنهم سلوكه.

لقد تعمد قادة إيران معاداة الكثير من الدول والتدخل في شؤونها دون أن تكون هناك أي مصلحة لبلدهم وشعبهم في مثل هذا العداء أو التدخل، وقد ربّوا جيلا جديدا من الإيرانيين على العداء للغرب والولايات المتحدة تحديدا، ووصموها بأنها "الشيطان الأكبر" واعلنوا الحرب بكل أصنافها على دول المنطقة وظلوا يحاربون العراق ثماني سنوات، رافضين المساعي الحميدة التي قامت بها دول إسلامية وعالمية لإيقاف الحرب، وكانوا يستوردون السلاح من إسرائيل التي يدّعون معاداتها كي يحاربوا به العراق، وقد دوّن ذلك وزير الخارجية البريطاني الأسبق، جاك سترو، في كتابه (المَهَمَّة الإنجليزية-The English Job)، وتحدث عنه في مقابلة تلفزيونية أخيرة، متوفرة مع ترجمة عربية على اليوتيوب لمن يريد الاطلاع. وقال سترو إن إسرائيل هي رابع مصدِّر للأسلحة لإيران بعد الصين وكوريا الشمالية وليبيا. بل وذهب أبعد من ذلك حينما قال إن إيران إسرائيل تعاونتا على تدمير القوة الجوية العراقية إذقدمت إيران لإسرائيل خرائط وصور جوية لمفاعل تموز النووي العراقي كي تتمكن من ضربه وتدميره في أكتوبر عام 1981.

وأضاف سترو، وهو المطلع على الأسرار العالمية إذ كان الوزير الأول في حكومة حزب العمال البريطاني المتعاطف مع قضايا شعوب العالم الثالث وغير المتحامل على إيران، أن خامنئي شخصيا وافق على سفر خمسين الف إيراني يهودي للإقامة في إسرائيل وبذلك مكَّن إسرائيل من معرفة كل شيء عن إيران عبر هؤلاء المواطنين الإيرانيين الذين يجيدون الفارسية. وفي الوقت نفسه كانت إيران تدعي بأنها تعادي إسرائيل وتساند الحق الفلسطيني وقامت بإغلاق سفارة إسرائيل في طهران وفتح سفارة لدولة فلسطين محلها! ونقل سترو عن أريل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي في الثمانينات، أنه أخبر دنِس هيلي، وزير الدفاع البريطاني الأسبق ووزير خارجية حكومة الظل، بأن إسرائيل تزود إيران بالسلاح! وطلب هيلي من شارون إيقاف العملية لكنه رفض. وأضاف أن الولايات المتحدة هي الأخرى طالبت إسرائيل بالتوقف عن تصدير السلاح لإيران لكنها أخفقت، ثم تفهمت بأن هناك مصلحة أمنية إسرائيلية، خصوصا وأن إسرائيل لا تعتبر إيران عدوا لها.     

والعراق هو الآخر سخّر علاقاته الخارجية بعد مجيء نظام حزب البعث عام 1968 لخدمة النظام السياسي وتحقيق طموحات رئيسه صدام حسين في أن يصبح زعيما للعالم العربي والعالم الثالث. وبدلا من أن ينفق أموال النفط العراقي الطائلة التي تدفقت منذ السبعينيات، على تطوير العراق وتحقيق الرفاهية لشعبه، كما فعلت الدول العربية النفطية الأخرى، أخذ ينفقها على العسكرة والقمع والتجسس واكتساب الأسلحة المتطورة بما في ذلك سعيه لبناء مفاعل نووي بالتعاون مع فرنسا، والذي كلف مليارات الدولارات لكن إسرائيل دمرته خلال نصف ساعة بالتعاون مع إيران. كان العراق ينفق الملايين على دعم وسائل الإعلام، العربية والعالمية، من أجل أن يقدم صورة كاذبة عن نظامه، مشوها الحقائق ومختلقا الإنجازات والانتصارات الوهمية لقيادته. بينما ظل العراقيون يعانون شظف العيش ويصطفون طوابير من أجل الحصول على المواد الغذائية الأساسية، بالإضافة إلى القيود الصارمة التي فرضها على الحريات العامة.

وبدلا من أن يهتم بتطوير العراق وخدمة مواطنيه، أخذ يتدخل في شؤون البلدان الأخرى بحجة "إقامة الوحدة العربية"! فمن مغامرته في الحرب مع إيران إلى مغامرته غير المحسوبة الأخرى في غزو الكويت، إضافة إلى التدخل في الشأن الفلسطيني واللبناني والسوري ودول أخرى حتى في أفريقيا، وأخيرا دخل في حرب مع المجتمع الدولي برمته انتهت بغزو العراق واحتلاله عام 2003.

نظام ما بعد 2003 المهلهل هو الآخر لم يتعظ من أخطاء النظام السابق بل سار على نهجه، وفاقه في العبث بمصالح العراق وسيادته، وبدلا من السعي لخدمة الشعب العراقي واستغلال الفرصة النادرة التي توفرت للعراق بعد عام 2003، في إقامة نظام عصري متطور ومتفاعل مع المجتمع الدولي، واستغلال استعداد الدول الغربية جميعا آنذاك لإعادة إعمار العراق، أصبح أداة بأيدي النظام الإيراني القروسطي المحاصر عالميا والمنبوذ إقليميا. لقد سمح النظام العراقي الجديد لإيران بأن تنشئ عشرات المليشيات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، فأخذت تنفذ مآرب قادة إيران غير المشروعة، وجرَّت العراق إلى حروب إيران الخارجية التي عجزت عن القيام بها بنفسها. أصبحت الميليشيات (العراقية) ذراعا طيِّعا لإيران، تضرب به مصالح العراق وأصدقائه وتخرب به علاقاته الإقليمية والدولية وتوظفها لصالح مشروع النظام الإيراني العبثي.

وبدلا من أن يستفيد العراق من العلاقة مع الولايات المتحدة التي كان يمكن أن تساعده على النهوض اقتصاديا وتكنولوجيا، بدأت المليشيات الإيرانية بضرب السفارة الأمريكية والقوات الامريكية التي جاءت إلى العراق بطلب من الحكومة العراقية عام 2014 لمساعدتها في الحرب على الإرهاب، ما أفقد الساسة الأمريكيين والشعب الأمريكي الواسع، الثقة في التعامل مع القادة العراقيين الشيعة تحديدا، رغم تناقضاتهم السياسية، فقد وظّفوا قدرات العراق وثرواته وإمكانياته وعلاقاته لصالح النظام الإيراني وضربوا مصالح العراق عرض الحائط، ما أثار حَنَق الشعب العراقي ودفعه للاحتجاج.

لم تكن أفعال قادة العراق وعبثهم بمصالح البلد خفية عن الجيل الجديد الواعي الذي رأى دولة عراقية عمرها 7 آلاف عام تذوب تدريجيا في الفوضى الإيرانية، ورأى قادة (عراقيين) يأتمرون بأمر ضابط إيراني، ورأى أن العراق ليس مهما لدى قادته، بل إن إيران ومصالحها وأهواء قادتها هي الأهم. لذلك لم يعد هناك خيار أمام الناس سوى الانتفاضة السلمية، مطالبين بالإصلاح وتطبيق القانون على الجميع بعدالة، فرفع الشباب شعارا بليغا ومعبرا وهو (نريد وطنا)، وكأنهم يقولون إن وطننا قد ضاع ونحن مصممون على استعادته.

وبدلا من أن يتعظ قادة العراق (الديمقراطي) من أخطاء الماضي وينتبهوا لأخطائهم وسخط الناس منهم، ويستجيبوا لمطالبهم المشروعة، بدأوا يقتلون الشبّان المتظاهرين ويخطفون الناشطين، بمن فيهم النساء، ويعذبونهم ويغيبونهم، ويتفننون في إطلاق الأكاذيب المفضوحة والافتراء على المحتجين والادعاء بأن من يقتلهم هو "الجوكر الأمريكي" وفي الوقت نفسه يتهمونهم بأنهم يأتمرون بأمر أمريكا! ويتوقعون من العراقيين ودول العالم أن يصدقوا بهذا الخطاب البائس.

القادة الوطنيون يستخدمون العلاقات الخارجية لتطوير بلدانهم وإعلاء شأنها وتحقيق طموحات شعوبهم في الرخاء والحياة الكريمة، أما قادة العراق الحاليون فقد خربّوا علاقات العراق مع العالم وشوّهوا سمعته ووضعوه في أسفل قائمة المؤشرات الدولية، وسخّروا علاقاته الخارجية وأمواله وأسواقه لخدمة إيران، والاتفاقية المشبوهة مع الصين خير مثال، بينما تقاسموا الثروة فيما بينهم دون أدنى اكتراث لمشاعر العراقيين ومستقبل البلد، وتركوا الناس تجوع وتمرض وتهاجر. لا يتوقع العراقيون خيرا من الحكومة المقبلة، خصوصا وأن الجماعات الفاسدة هي التي اختارت شخصا ضعيفا لتشكيلها وفقا لمبدأ المحاصصة الذي ساروا عليه منذ عام 2003 حتى اليوم.

الأمل الوحيد المتبقي للشعب العراقي هو أن يتمكن العالم من القضاء على فيروس كورونا كي يعود الشباب للمطالبة بحقوقهم ويرغموا المتسلطين على الرضوخ لمطاليبهم. وفي هذه الأثناء فإن الجيل الجديد مدعوٌّ لأن ينظم نفسه ويتصرف وفق استراتيجيات مدروسة بإحكام، ويخطط برَويّة وحكمة للمستقبل البعيد الأمد كي يتمكن من تحقيق طموحاته بإقامة دولة عصرية خادمة لمواطنيها. وعليه أيضا ألا يخشى من المسلحين، فهؤلاء ضعفاء ولا يمتلكون مقومات البقاء وإلا ما كانوا ارتبطوا بدولة أخرى معادية لبلدهم.