المدهش أن الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان، لا ينسى كم هو هذا الإنسان الذي يستجير به ذئبٌ إلاّ عندما يُفرض عليه حظر الحضور في حضرة هذا الإنسان، كما في حال هيمنة أوبئة الإبادة الشاملة. إنه في هذه الحال يستميت في التشبّث به، ويطلبه كأن فيه وحده يسكن الخلاص. فأيّ سرّ يكمن في هذا اليقين؟ هل فرار من تلك الحرية التي تحقّقها العزلة، أم الحقيقة أنه فرارٌ من النفس؟.
ها نحن نتلقّى في وسائل الإعلام، ومن روايات الأصدقاء، كيف أعجز السلطات الملكيّة إجبار الناس على التخلّي عن الإختلاط بكل أجناسه، ولم تفلح الغرامات السخيّة المفروضة على كل المخالفين، بل ولجوء السلطات إلى اعتقال الكثيرين وزجّهم في السجون. ولكن بلا جدوى، ليغدو الهوس بالحضور في حضرة الآخر، أيّاً كان هذا الآخر، حاجةً مَرضيّةً لن تُفهم ما لم تخضع نفسية الإنسان الذي يحيا واقعاً وبائيّاً لمحك يستجلي حقيقة التأويل الذي لن يكون سوى حاجة الإنسان الخفيّة لأن يتمرّد لا على القوانين الوضعيّة وحسب، ولكن على قوانين الطبيعة أيضاً في سبيل خلاصٍ من الموت، بالفرار إلى ... الموت!
ففي الجانب الآخر من متاريس الحظر، ينتظر الإنسان أخاه الإنسان محتضناً في دمه جرثومة الترياق، ليتبادلا صفقةً، ينالان بموجبها الخلاص من كابوس إسمه: الوجود!.
الجمعة. 27 مارس 2020 م.
من فضائل الوباء على جنسنا الفاني هو حثّنا على ضرورة إعادة النظر في المسلّمات التي اكتسبت في حياتنا حصانة غير جديرة بها، لأننا نكتشف بالوباء أن الحقيقة ليست في استيعاب المعلومات، ولكن في التشكيك في المسلّمات. فبالتشكيك، لا بالتسليم، نستطيع أن نعيد الحياة المغتربة لتلك المفاهيم التي حنّطناها بالتسليم، ففقدت هويّتها الحقيقية، كما هو الحال مع هبات الطبيعة المجّانية كالعناصر الأربعة، على سبيل المثال، التي اغتربنا عنها، ليأتي الوباء ليعلّمنا كم هو قدس أقداسٍ الهواء الذي استهنّا به، ولم ندرك كم هو بلسمٌ إلاّ بالحرمان به، وكم قدس أقداسٍ هو الماء السابح في ضفّتَي نهر، أو خضمّ بحر، وكم هي قدس أقداس هذه اليابسة التي لم تعد في متناولنا، فتسري فينا عندما نطأها، لنستشعر انتماءنا إلى طينتها، التي لُفِّقنا منها يوماً، وكم سعادةٌ هي نفحة الدفء التي تجود بها علينا الشمس في واقع فضاءٍ بخلت به علينا قضبان الوباء!
الوباء فارس يردعنا عن هوية السليل الضالّ، ويدفعنا دفعاً إلى حضن أمّنا الطبيعة التي لم نكتفِ بالكفر بوصاياها، ولكننا اقترفنا فنون الآثام في حقّها، ولم يبق لنا اليوم إلاّ أن نمثل في حرمها كي نتوسّلها الغفران، بوساطةٍ من جناب الوباء!
السبت 28 مارس 2020 م.
ها هي أعظم المدن ترفاً، وأكثرها حظّاً في التباهي بموهّلات الحضارة العمرانية منذ احتمى الإنسان بالإستقرار كبديل لسجية الترحال الأولى، تتنازل عن كبريائها، فتقبل بهويّة احتقرتها دوماً كالحال مع القرى، ليجد الطفل المدلّل، المجبول بالعناد، نفسه وقد غرق في واقعٍ محكومٍ بالظلمة.
انطفأت الأنوار في المدن تلبيةً لنداء حكمتين، أولهما: إجبار طفل الحداثة الذي أفسدته الحقن المتوالية من حقوق الفرد حتى صدّق أنه ملاكٌ منزّه، وليس ملزماً بالإلتزام بأيّ ناموسٍ أخلاقيّ، على الخضوع لقانون الطواريء الذي تطوّر عفوياً ليستعير صلاحيات قانون لم يعتده هذا الإنسان حتى في الحروب وهو قانون منع التجوّل. وقد وجدت السلطات نفسها مجبرةً على الإحتكام إلى الحيل الطفولية في ترويض هذا المخلوق الطفولي الذي يرفض الإعتراف بأي حجر مسّ ما اعتاد أن يسمّيه حرية شخصية. أمّا شقّ الحكمة الثاني فيتمثّل في انتهاز الفرصة لإراحة الطبيعة من نزيف الطاقة الذي لا يتوقّف في الظروف العادية، لتكون بذلك قد أسقطت عصفورين برمية حجر واحدة، وهو ما أعجزها أن تقرّه في الأحوال العادية،
ولم تفلح في إقناع مواطنيها بعمل ما من شأنه أن يريح الطبيعة من هذا النزيف الدموي المميت إلى حدّ لم تتردّد فيه حكومات هذا العالم من أن تحتال على طفلها المدلّل، كي يقبل بهذه التضحية، بأن اخترعت يوماً عالمياً يتنازل بموجبه الكل فيقبلوا بإطفاء الأنوار لأمدٍ لا يزيد عن بضعة دقائق! فكيف لا يترنّم ملاك الطبيعة الحارس بأناشيد الفرح وهو يقف شاهداً على مدنٍ تخضع للمشيئة التي تفقد بموجبها شوارعها الأضواء ليليّاً ولأجل غير مسمّى؟
الأحد: 29 مارس 2020م
يبدو أن الأجواء أيضاً متآمرة مع الوباء. وها هي تصادر من واقعنا الشمس لأمدٍ استغرق الشهرين. الشمس التي لم أهجر فردوسي في رحاب الألب السويسري إلاّ طلباً لها. وإيبيريا لم تكن لتكون مزرعة أوروبا، ومصيف أوروبا، وجنان أوروبا، إلاّ بفضل هذا الكوكب الذي لم يخطيء أسلافنا الأوائل عندما نصّبوه على الوجود معبوداً في حرفَي "رع" أو "رغ" (بالغين).
ولكن يبدو أن الجائحة تستعير، على نحوٍ مّا، سلطانها من مزاج المناخ أيضاً، وربما كان فساد الأجواء سلاحاً آخر في الحرب التي شنّتها الطبيعة على عالمنا، لإبطال مفعول المؤامرة التي لفّق العالم مكيدته من طينتها، وما الوباء سوى كلمة الغيوب في سبيل تفكيك لغمها، والطبيعة لعبت دوماً دور البطل في لعبة تغيير ما بالعالم، بغرض إعادة تقييم قيم الوجود في هذا العالم، بالطوفان مرة، وبالأعاصير أيضاً، وبالأوبئة مراراً.
فالوجود، ككل نسيج، يحتاج من حين لآخر لعملية غسيل، نستطيع أن نسمّيها تطهيراً إذا استخدمنا في حقّها لغة التقوى، أو تجديداً، إذا استجرنا بلسان أهل الباطل. ويبدو، لهذا السبب، صار الطوفان، في ثقافات الأمم، بعبعاً مخوّلاً باستنزال القصاص الذي ينفي عن الوجود دنس الضلال، ليعيد تأهيل واقع الإنسان ببعثه من عدم.
والوباء في الديانات لعب دور المفهوم نفسه الذي لعبه الطوفان كمفهوم للتغيير المفروض بحرف قوّة غيبيّة تقع خارجنا، تتولّى الأمر بالإنابة عنّا، في حال أعجزنا أن نستنزل التغيير في واقعنا بأنفسنا، التغيير المقدّس النابع من باطننا، ليأتي تغيير الخارج كقصاصٍ على هذا العجز؛ لأن ما يُعرف به في ناموس التغيير هو موقف الحقيقة التي تسكننا، من الواقع الذي نسكنه. والويل لنا في حال أخفقنا في تلبية نداء حقيقتنا التي تسكننا، لأن ليس لنا آنذاك إلاّ أن ننتظر تغييراً إذا جاء لنا من خارج فهو دوماً قصاص تتولّاه عنّا أمّنا الطبيعة في صيغة طوفان، أو إعصار، أو وباء، قصاصاً منّا على عجزنا في تغيير ما بأنفسنا، لتحرير أنفسنا، في واقعنا المصغّر، بوصفه كاختزالٍ لواقعنا في حجمه المكبّر، وليس لنا عندها إلاّ أن نتقبّل هذا التغيير كقصاص، كقيامة، في بُعده الشمولي، في بُعده الكينوني.
الإثنين 30 مارس 2020 م.
ما يستطيع الوباء أن يتباهى به هو ما أعجزنا جميعاً أن نحقّقه على هذه الأرض، وهو: العدالة، بدليل أنه لا يفرّق بين فقيرٍ وغنيّ، بين حاكمٍ ومحكوم، بين قويّ وضعيف، ليكّد لنا هويّته كرسالة ذات دلالة. فلا أحد يجرؤ، في حضرته، أن يعوّل على حصانة. ففي هذه الخصلة وحدها يكمن عزاء أولئك الذين راقهم دوماً أن يتغنّوا بالمأثورة الشائعة: "الظلم عندما يسود يغدو عدالةً".
وعندما تتناقل وسائل الإعلام نبأ إصابة سادة هذا العالم أمثال ولي عرش بريطانيا أو رئيس وزرائها أو وزير صحّتها، أو كبير أطبّائها، فهذا يعني أن الوباء هو القاضي الذي فوّضته الغيوب كي ينطق في حقّ واقعنا بالحكم الغير قابل للنّقض، ليلقّن درسه لتلك الفئة التي تنكّرت لطينتها الفانية، وراهنت على عصمةٍ هي من حقّ الربوبية وحدها، بعد أن إغتصبت صلاحيّات هذه الربوبية، لتنصّب نفسها على واقعنا ربّ أرباب، فإذا بجرثومة تعتنق دين العدم، تطيح بحصون الزور، وتكشف لأشباح هذا العالم وبهلواناته حقيقتهم، تكشف لهم عجزهم، تكشف سوآتهم التي حاولوا دوماً أن يخفوها خلف أقنعتهم، فهل يفلح الدرس في إعادتهم إلى صوابهم؟
الثلاثاء 31 مارس 2020 م.
أخيراً استطاع الوباء أن يلزم أوروبا باتّخاذ القرار الذي صمد في وجه أعاصير الزمن لأمدٍ استغرق عقوداً. والمثير للفضول، أو ما يجب أن يثير الفضول حقاً، هو نجاح جرثوم، هو سليل عدم لا وليد وجود، في إبطال مفعول قانون "شنغن" الذي حطّم حدود الدهور، في القارّة العجوز، وفتح البوّابات بين الأوطان ممّا أتاح لأفراد الإتّحاد التنقّل بحريّة في كل ربوع القارّة دون الحاجة للحصول على تلك التعويذة التي كانت في واقع جيلنا لقيةً لا تقدّر بثمن كتأشرة الدخول لرحاب هذا البلد أو ذاك، كأنها إذن، أو بالأصحّ، إيذانٌ إلاهيّ بدخول الجنّة، وليس مجرّد عبور لطرف آخر من أرض الله الواسعة. وها هو الوباء يجبر القارّة على قفل باب هذه الجنّة، ليعود كل شريك إلى الوراء، ليغلق الباب على بيته!
فأوروبا لم تكن لتحتفي بذاك الفتح لو لم تستعر مسألة الحدود روحاً قدسية في نفوس الأجيال، إلى الحدّ الذي استعارت فيه أبعاداً غيبيّة في واقع العالم، فلا يجوز انتهاكها إلاّ بمرسوم، لا يجوز اجتياحها بلا طقسٍ وجوديّ، موسومٍ بختمٍ ديني. فالحدّ، في يقين الإنسان، برزخٌ بعيد المنال في كل حال. والحلول فيه ممارسة تستدعي القربان، لأنه لا يعود مجرد فيصل بين أرضٍ وأرض، ولكنه يستعير مسوح الحرم.
يستعير بُعد المعبد. ولذا فإن بلوغه محفوفٌ بالخطر ما لم تُتلا في حضرته صلاة. وإذن الدخول، المعتمد منذ القدم، في عبور حدود الأوطان، هو ترجمة حرفية لسيرة مجازية ليست حسنة الظنّ بالحرف دائماً. ذلك أن الحدود قدَرٌ مجهول الهوية، نلناه على سبيل الإرث، لنجد أننا لسنا وحدنا من اعترف به لأنفسنا كإرث، ولكن الأغيار الذين يشاركوننا الوجود على هذه الأرض، يعترفون به لنا أيضاً، فلا ينازعوننا فيه عادةً، فإذا أخطأوا مرّةً، وقرّروا أن يستهينوا بهذه الحرمة، فلن يضمنوا النجاة من خطيئتهم هذه، لأن العبث بالحدود هو الخطيئة التي لم تُغتفر في ناموس العلاقات بين الأمم، ولهذا السبب كانت إستباحة الحدود سبب كل الحروب الدامية التي شهدتها الأرض منذ وجدنا فيها أنفسنا أضيافاً، ولكننا، برغم حكم الضيافة، مجبولون بحظوة الإستمتاع بفسحة أرضٍ هي في أعناقنا أمانةً إلاهية، الويل لنا إذا فرّطنا في شبرٍ منها، لأننا آنذاك سنخضع لإمتحانٍ عسير، العبودية فيه ليست القصاص الأخير، لنكتشف بالتجربة كيف تلتزم حتى الحيوانات بهذا الناموس، فكيف يجرؤ مَنْ نصّبته الأقدار على الرقعة خليفةً أن يخرق الناموس، ويعبث بحرمة الحدود؟
لقد هيمنت هذه الحرمة الميتافيزيقية للحدود منذ الأزل، ولولا سلطة هذه الحرمة لما كان اختراق الحدود بدون إذن بمثابة إعلان حرب، عانت الأمم من ويلاته منذ القدم. وأحسب أن أبناء جيلنا أحقّ بالإدلاء بشهادتهم في شأن مدى عسر اجتياز الحدّ الذي يستدعي نيل إذنه مراسم تستغرق وقتاً نفيساً، وتستوجب الخضوع لاستجوابات عسيرة من قِبَل السفارات المعنيّة، وكثيراً ما تنتهي هذه الإلياذة، برغم كل هذه الطقوس، إلى الفشل.
قدس الأقداس هذا، المجبول بهذه الطبيعة الغيبيّة، هو الصنم الذي قرر الأوروبيون أن يجودوا به قرباناً لبناء حجر الأساس في كيان إتّحادهم المجيد، لتتحوّل القارّة بموجبه كلّها حدّاً واحداً يضمن لمن دخل رحابه أن يتنقّل في أرجائه بمنتهى الحرية.
بلى! الأوروبيّون ضحّوا بالحدود في سبيل نيل كنزٍ أعظم شأناً، كان في دنياهم دوماً حلماً، بل هاجساً، هدهدوه طويلاً جداً، وهو: السِّلْم! ولم يكونوا ليحققوا منه شيئاً لو لم يهتدوا إلى تقنين تفوّق هذه الأمة، بالمقارنة مع أممٍ أخرى، وتصريف هذا التفوّق في شرايين نفعيّة، إقتصادية، بدل حقنه في شرايين الحرب الشريرة، التي عانى إنسان أوروبا من ويلاتها طويلاً؛ لأن الإقتصاد كفاءة مؤهلة لأن تسهم في توطيد أركان السلم، عكس القوة الحربية التي لا تعترف بغير سفك الدم ديناً.
كان ذلك ضربٌ من تغليب عرق النفع، على نزعة استعراض العضلات البدنية، واستطاع الإنسان الأوروبّي المجبول بروح عرّاب العقل البشري "عمانويل كانط" أن يحقق هذه المعجزة بعد عراكٍ مع الواقع إستقطع من عمر الزمن عقوداً. ولذا كان من حقّه أن يتباهى بهذا الإنجاز، ومن حقّه أيضاً أن يتساءل اليوم أيضاً عن الكيفية التي تمكّن جرثومة تسكن مجاهل العدم، من أن تطيح بعرش مجدٍ تحقّق بجسيم التضحيات، لأن الوباء دوماً لغزٌ يدعونا لإعادة تقييم موقفنا من الطبيعة التي ظننّا دوماً أن علينا أن ننتزع منها غصباً، بدل أن نكتفي بأن نقبل ما تهبه لنا طوعاً، لأن هذه الأمّ التي عاملناها تارةً كطفلٍ غرّ، وتارةً أخرى كعدوٍّ مبين، هي بئرٌ بلا قاع، جديرٌ بنا أن نهادنه، ونستجديه الغفران لقاء خطايانا في حقّه، إذا شئنا أن يتنازل ويقبل بفتح صفحة جديدة في العلاقة، موسومةٌ ببصمةِ عهد، لأن لا أحد يضمن ألاّ تكون مثل هذه الأوبئة، وليدة استهتارنا بشرائع هذه الأمّ، التي نأبى إلاّ أن نعاملها كعدوّ.
الطبيعة التي لم نهبها، بسبب جشعنا، الفرصة كي تلتقط أنفاسها، قررت أن تتولّى الأمر بنفسها، فبعثت بالوباء رسولاً، كي يوقفنا عند حدّنا ولو لمهلة، لتتحرّر من عبثنا، فتتنفّس الصعداء!.
الإربعاء 1 إبريل 2020 م.
الوباء يكتسح القارات بسرعة جنونية، ويحصد الأرواح بعشرات الآلاف، ولكن الحياة تولد في شجرة البتولا حثيثاً. اليوم انتعشت الأغصان التي اغتربت منذ خريف العام الماضي، وها هي تشطح احتفاءً بميلادٍ، هو حقاً، بالنسبة لي، عيد.
الإربعاء 1 إبريل 2020 م.
ألبير كامو ينتهي في "الطاعون" إلى أن الوباء هو الوجود، أمّا جويس فينتهي إلى أن الوجود هو: الملل!
ويدلي أمبيدوقلس بنصيبه أن الوجود: ألم!
ولكن ماذا عن موقف الفريق الحسن الظنّ الذي يقول أن الوجود: أمل؟