قد لا يكون حكيما الركون إلى كمّ الأدبيات التي دُبجت على عجل في الأيام والأسابيع الأخيرة حول مستقبل العالم بعد كورونا.
عمليات الاستشراف التي تكدست تناسلت من معطيات انفعالية واستندت على ظروف الهلع التي واكبت أكثر خطر وجودي على البشرية جمعاء في القرن الحالي. على أن قواعد اندثار نظام عالمي وظهور نظام بديل آخر لا يتأتى وفق دروس التاريخ، إلا من خلال قهر القوة التي لا يبدو أن الأمم لجأت إليها أو قد تلجأ إليها لإعادة تكوين المشهد الدولي الحديث.
والأصح أن الصين احتلت صدارة الورش التحليلية، وليس دائما لأسباب واحدة. وجب ألا ننسى أن الفيروس صيني الهوية والأصل، وأن هذه حقيقة، حتى لو أراد الرئيس الأميركي دونالد ترامب من خلال تردادها تصفية حسابات تقليدية عتيقة بين الولايات المتحدة والعملاق الأصفر.
ووجب ألا يغيب عن بالنا أن الصين أخفت عن العالم وجود الفيروس، وكتمت أخبار ما يفتكه بالبشرية منذ نوفمبر الماضي، على نحو يقف وراء الكارثة التي تمددت نحو العالم قاطبة.
لن يكون حصيفا الكلام عن "ثورة صينية" ستخرج عن مواسم الوباء. سارعت بكين إلى بهرجة "قضائها" المزعوم على الفيروس بحملة علاقات عامة لم تتجاوز الطابع الماركنتيلي للمارد الشيوعي في آسيا، فيما بدأت تقارير تتحدث عن سوء الأدوات الطبية وتهتلك نوعية ما أرسلته الصين صوب بلدان منكوبة.
البعض أعاد الأمر إلى عقلية البزنس التي رانت على الصين، بحيث يباح للشركات الخاصة إغراق السوق الدولي بما يلبي حاجاته العاجلة أيا كانت هذه الحاجات. ولئن تسعى بكين لإعادة تموضع كبرى على رأس النظام العالمي، يعيد العالم اكتشاف الصين من خلال منتوجها الرخيص الثمن الذي لا يمكن للنظم الصحية الحديثة في الدول الكبرى أن تمحضها بأي ثقة أو مصداقية.
لا يتشكل هذا العالم من جديد. العالم بكبيره وصغيره يواجه صدمة القرن الكبرى بما يملكه من أدوات. وقد لا يكون منصفا اتهام المنظومات الصحية بالتقصير، ذلك أن تلك المنظومات تستند على شبكات ومؤسسات ورجال بحث وعلم وصناعة دواء واستشفاء لم تكن جاهزة للرد على الاحتمال المستحيل الذي يمثله فيروس كورونا. وفيما الحكومات تجهد للرد يوما بيوم على تقدم الوباء، إلا أن أدوات القوة لدى الدول العميقة في بلدان العالم الكبرى ساهرة دون كلل للمحافظة على الخطوط التي يدار على أساسها النظام الدولي الراهن.
لا شيء تغير أبدا في الموازين الدولية الكبرى. لم تمثل الصين في السياسة والعسكر والاقتصاد أكثر مما تمثل، ولن تستطيع روسيا، التي تئن كغيرها من أوجاع الوباء، أن تغير سطرا في توازن الخرائط التي تنظم قواعد لعبة الأمم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.
تكفي مراقبة لائحة المناورات العسكرية التي تجريها الولايات المتحدة وحلفائها في العالم للتأكد من أن بركان الفيروس، على ضخامته وضراوة شروره، يتم التعامل معه بصفته حادثا عرضيا ستخبو آثاره عندما تخبو حممه ولو بعد حين.
وجدير تأمل غياب أي نصوص أيديولوجية مؤسسة لإرهاصات أي تغير قد يطرأ على النظام الدولي. خرجت من إيطاليا نصوصا عاتبة إلى حد الحقد على هذا العالم الذي "ترك إيطاليا وحيدة لمصيرها". في ثنايا القول يتسرّب ما كان يروّج اليمين الشعبوي له من كره للعولمة، لا سيما واجهتها الأوروبية المتمثلة بالاتحاد الأوروبي.
غير أن رموز اليمين نفسها لم تتجرأ كثيرا على الذهاب بعيدا في خطاب من هذا النوع، خصوصا أن هناك خطاب آخر معاكس اتهم حكومة روما الشعبوية بأنها لم تكن مدرسة تحتذى في التضامن الإنساني، وأن سياستها ضد المهاجرين في البحار أبعدت عن شواطئ البلد بواخر مليئة بالكفاءات المهاجرة، لا سيما الأطباء منهم، الذين ابتلعتهم مياه المتوسط أوجذبتهم شواطئ أوروبية أخرى.
لن يتغير هذا العالم كثيراً. الغرب سيبقى غرباً وقد تزداد غربته عن محور الصين روسيا. تلقت الترامبية ضربة مباشرة في الصميم. في واشنطن من يتهمه بأنه جرد البلاد من دفاعاتها ضد الأوبئة. أعاد ترامب نفسه الحديث عن التعاون الدولي. أدرك الرجل أن "أميركا أولا" لا تستطيع انقاذ أميركا، وأن الفيروس الذي لم يفرق بين شرق وغرب أو بين أمة وأخرى، فرض نفسه عدوا أصيلا للبشرية جمعا على نحو يعيد على البشر طرح قراءة أخرى لطبيعة العلاقة بين الأمم.