لم يتأخر الرئيس العراقي برهم صالح كثيرا بعد انتهاء المدة الدستورية لاختيار مرشح لتشكيل الحكومة المقبلة، بل سارع خلال ساعات من انتهائها إلى تكليف السيد عدنان الزرفي، رئيس كتلة النصر النيابية ومحافظ النجف السابق، بهذه المَهَمّة الصعبة.
وعلى الرغم من أن التكليف لم يـأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة لمطالبة كتل برلمانية تجاوز عدد أعضائها المئة وخمسين نائبا، إلا أن كتلا أخرى لديها أجنحة مسلحة مرتبطة بإيران أصيبت بالهلع من هذا التكليف، معلنة معارضتها له وساعية لافشاله حتى قبل تشكيل الحكومة وعرضها على البرلمان.
وينتمي الزرفي إلى الوسط الإسلامي الشيعي، وقد حكم محافظة النجف لأكثر من عقد من الزمن، إذ بدأ عهده مُعيَّنا من سلطة التحالف المؤقتة، لكن نجاحه في إدارة المحافظة وفرض القانون فيها قد اقنع أهالي النجف بانتخابه مراتٍ عديدةً لمنصب المحافظ. ويتميز ناخبو النجف بالوعي السياسي وقد أسقطوا شخصيات سياسية كبيرة عندما فقدوا الثقة بها، لكنهم واصلوا دعمهم لقائمة (الوفاء) التي يترأسها الزرفي وتشغل حاليا ثمانية مقاعد في مجلس المحافظة.
هناك بالتأكيد معارضون للزرفي في النجف وغيرها، وهذا أمر طبيعي، وهناك من يتهمه بالفساد وسوء استخدام السلطة، ومثل هذه التهم طالت كل الشخصيات العامة تقريبا. وهي في أحيان كثيرة تكون ملفقة بهدف تشويه سمعة الخصوم وتضليل الناس وخلط الأوراق وتعكير الأجواء، وأحيانا أخرى يقوم الفاسدون أنفسهم بإطلاق الأكاذيب حول خصومهم لدفع الناس إلى الاعتقاد بأن الجميع فاسدون. هناك أشخاص أدينوا (بالفساد) ودخلوا السجون، لا لأنهم فاسدون فعلا، بل لأنهم رفضوا الاشتراك في صفقات فاسدة، فلُفِّقت لهم تهمٌ وأدانتهم المحاكم ودخلوا السجون مظلومين.
امتاز الزرفي بالشجاعة والوضوح والإقدام في عمله السياسي والإداري، وهذه صفات نادرة بين السياسيين العراقيين الذين اعتاد كثيرون منهم على المراوغة والتسويف والخداع وعدم الإفصاح عن آرائهم الحقيقية. كما امتاز بالحزم في إدارته الحكومية وضرَبَ بيد من حديد على المتجاوزين والمشاغبين، حتى أن عراقيين في محافظات أخرى طالبوا عبر وسائل الإعلام بأن يحكمهم محافظ كمحافظ النجف.
انتمى الزرفي لحزب الدعوة الإسلامية في مطلع الثمانينات وشارك في انتفاضة آذار عام 1991 ضد النظام السابق، وفرَّ من العراق إثر فشل الانتفاضة إلى رفحاء في المملكة العربية السعودية، وأقام هناك لمدة عامين، قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنه بدأ حياته إسلاميا، لكن انتقاله للعيش في الولايات المتحدة وممارسته الحكم لـ17 عاما في العراق قد اقنعاه بالانتقال إلى الجانب العملي العلماني في السياسة، فمَهَمَّة الحكومة هي تطبيق القانون وإقامة العدل وصيانة الحريات العامة والخاصة وحفظ الأمن وحماية حدود البلاد وإقامة علاقات خارجية مثمرة تعود بالنفع على الناس وتوفير الخدمات وتنمية الاقتصاد كي يوفر الوظائف للمواطنين، ومنح الفرص الملائمة للمستثمرين كي يساهموا في التنمية والتطور.
أما العقائد والعبادات والقناعات والسلوكيات الشخصية والعلاقات بين الناس فهي أمور متروكة للأفراد كي يديروها بالطريقة التي يعتبرونها مناسبة، والدولة لا تتدخل فيها، باستثناء تنظيمها وفق القانون إن كان لها تأثير على الحياة العامة.
غادر الزرفي الحركة الإسلامية تنظيميا بعد أن اشتد عوده السياسي، لكنه بقي متدينا على المستوى الشخصي، وحصل على مؤهلات عليا في الفقه من جامعة الكوفة، لكنه انفتح على الثقافات الأخرى وادرك أن ضرورات الحكم تتطلب التسامح وتقبل أنماط الحياة المختلفة وحمايتها. وفي انتخابات عام 2018، تحالف مع رئيس الوزراء آنذاك، حيدر العبادي، وشكلا معا تحالف النصر الذي فاز بـ44 مقعدا في البرلمان، ترأس الزرفي كتلته البرلمانية، لكن عدد مقاعده تقلص لاحقا بسبب انشقاق فالح الفياض الموالي لإيران عنه. ويشترك الزرفي مع العبادي في خصال عديدة أهمها التشبث بالهوية العراقية. وقد كان للعبادي الفضل في إيقاف الانحدار المريع في التماسك الوطني العراقي الذي أحدثته السياسات المرتبكة والمتشنجة لسلفه نوري المالكي، ويتوقع من الزرفي أن يواصل السير على هذا النهج.
تمكن الزرفي خلال هذه الفترة من توطيد علاقاته مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، مدركا أن موازين القوى في العراق تحتاج إلى تحالفات خارجية، خصوصا مع الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي. لا شك أن الولايات المتحدة، بل وكل دولة تسعى لتوطيد الاستقرار وتنمية العلاقات مع العراق، تريد أن ترى شخصا عمليا ومنفتحا وحازما كعدنان الزرفي في السلطة، لكن الشأن العراقي لم يعد يحظى بأولوية لدى الإدارة الأمريكية، وليس كما يتوهم عراقيون بأن الأمريكيين لا هم لهم سوى التفكير في العراق! الولايات المتحدة لديها اهتمامات كثيرة أخرى في عام تُجرى فيه الانتخابات الرئاسية، ويواجه فيه العالم أجمع وباءَ كورونا الشرس الذي عَطَّل المشاريع وقَلَبَ الخطط عاليها سافلها، وأربك الأولويات وأبطأ حركة الاقتصاد والحق به خسائر غير متوقعة.
ولكن لماذا أصيبت القوى (السياسية) العراقية المسلحة الموالية لإيران بالهلع من تكليف عدنان الزرفي بتشكيل الحكومة؟ علما أنه من الوسط الإسلامي الشيعي الذي تنتمي إليه، وكان قادة هذه القوى متعايشين ومنسجمين معه خلال 17 عاما، ويتعاملون معه كعضو فاعل في التحالف الشيعي، ومحافظٍ لأهم محافظة دينية يرتادونها ويدّعون الانتساب إليها. ولماذا يجتمع قادة سبع كتل سياسية شيعية ومليشياتها المسلحة للتشاورحول كيفية إسقاط قائدٍ عراقي مجرب وناجح؟ قائدٍ قد يتمكن من تحقيق الاستقرار وتهدئة الاحتجاجات وتجنيب العراق الصراعات الدولية والإقليمية والتأسيس لعملية سياسية تستوعب الجميع؟
لم يجتمع هؤلاء القادة لبحث التدهور الأمني الحاصل في البلاد، ولم يجتمعوا أثناء سيطرة تنظيم داعش على ثلث العراق، ولم يجتمعوا أثناء الحرب الطائفية التي أشعلوها بخطابهم وسياساتهم الطائفية الغبية المتشنجة، ولم يجتمعوا لمناقشة الأزمة الاقتصادية التي واجهتها البلاد سابقا، وتواجهها حاليا بسبب انخفاض أسعار النفط، ولم يجتمعوا للتباحث حول كيفية تخليص البلاد من وباء كورونا الذي يهدد بإحداث كارثة إنسانية لا مثيل لها، خصوصا مع جهل الناس بخطورة الوباء وممارستِهم شعائرَهم الدينية التي تتخللها تجمعاتٌ مليونية، قد تهدد حياة الملايين خلال الأشهر المقبلة، حسب تحذير منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العراقية.
لم يعرف عن هؤلاء (القادة) النحارير حرصهم على وحدة البلد وتماسكه، ولم يصابوا بالهلع من الكوارث والمآسي التي مر بها العراق خلال 17 عاما. لكنهم اجتمعوا وتباحثوا واحسوا بخطر داهم عندما كلّف الرئيس برهم صالح، مرتقيا إلى المسؤولية الوطنية والأخلاقية ومدركا خطورة الوضع الذي تمر به الدولة، عراقيا منتخبا ومجربا لقيادة الحكومة لمرحلة انتقالية مؤقتة.
هل يدرك هؤلاء القادة الأخطار المحدقة بالعراق؟ أم أنهم نذروا انفسهم والعراق فداءً للولي الفقيه وجمهوريته؟ كيف يفكرون وبأي منطق يحللون الأشياء؟ تفكُّك العراق وضعف الحكومة والأزمة الاقتصادية وتفشي الفساد ووباء كورونا وانتفاضة الشعب العراقي والأزمة السياسية الخطيرة وتدهور الأمن والخدمات وارتفاع البطالة وسيطرة المليشيات المسلحة على البلد والمجتمع وإيغالها في القتل والخطف والنهب، لماذا لم تدفعهم كل هذه الكوارث للتفكير بحلول عملية؟ لماذا لا يفكرون بتقديم تنازلات سياسية كي يبقى العراق متماسكا وقويا، وكي يبقوا مشاركين في العملية السياسية؟ فالديمقراطية لا تعني الفوز دائما والمشاركة في الحكومة دائما، لكنهم على ما يبدو يريدون كل شيء لأنفسهم، ولا يهمهم إن ذهب الآخرون إلى الهاوية. إن هذا الهلع الذي أصاب قادة المليشيات من حكومة يشكلها الزرفي يدفع العراقيين للبحث جديا عن الأسباب الكامنة وراءه. ومن خلال استعراض سريع لتأريخ هؤلاء، نعرف بأنهم لم يجتمعوا يوما لمصلحة وطنية، لكنهم يجتمعون وينسقون ويتعاونون للاحتفاظ بمصالحهم ومصلحة إيران التي ترعاهم وتسندهم.
إنهم يخشون من أن الحكومة المقبلة، خصوصا إذا كانت مدعومة دوليا، سوف تحاسبهم وتكشف سرقاتهم وجرائمهم بحق العراقيين وتفكك مليشياتهم التي تمكنوا عبرها من السيطرة على العراق. وضوح الزرفي وخططه الرامية لمنع الجماعات المسلحة من المشاركة في الانتخابات قد أفزعتهم وجعلتهم يستنفرون قواهم لمنعه من تشكيل الحكومة. إنها مسألة مصيرية بالنسبة لهم ولأسيادهم خارج الحدود، لكنها أيضا مصيرية لباقي العراقيين المصممين على بناء دولة حديثة تحترم الإنسان وتساوي بين المواطنين. وهي أيضا مسألة تهم الدول الأخرى التي تسعى لتعزيز الاستقرار وإزالة بؤر التوتر في المنطقة.
أتمنى من المتنفضين أن يؤيدوا حكومة عدنان الزرفي الذي وقف مع الانتفاضة منذ اليوم الأول لانطلاقها. نعم، قد لا يتمكن من تحقيق كل ما يصبون إليه من طموحات في الفترة الزمنية القصيرة المقبلة، بل إن هذا شبه مؤكد، لأن التحديات كبيرة والسياسة فن الممكن، لكن عليهم وباقي العراقيين أن يبقوا يقظين ويراقبوا أداء الحكومة من أجل تسديدها إن تلكأت أو أخطأت. سيتمكن الزرفي، بمساندة القوى الوطنية والديمقراطية، من انتشال العراق من الفوضى الحالية والتأسيس لحكومة قوية، قد لا تكون مثالية، لكن أملنا كبير أنها ستسير بالبلد في الاتجاه الصحيح وتجعل العراق دولة عصرية مستقلة، وليس دولة تابعة لإيران كما تريدها الجماعات المسلحة. عدنان الزرفي يستحق التأييد عراقيا وعربيا ودوليا، وقد آن الأوان أن يعي العراقيون أن المرحلة المقبلة تتطلب حكومة قوية وشعبا يعرف أولوياته ويسعى لتحقيقها بعقلانية بعيدا عن الطوباوية والمثالية.