لم يكن تحديد الثامن من آذار/مارس من قبل الأمم المتحدة كعيد عالمي للمرأة مناسبة للحفلات وإلقاء الخطب والتغني بالأمجاد الحقيقية والمتخيلة، ولا حتى للتعريف بأهمية دور المرأة في المجتمع، فهذا معروف ولا ينكره إلا جاهل أو شوفيني.

لكنه مناسبة لتذكير الدول والمجتمعات والعائلات في العالم أجمع، بما أُنجز خلال العام المنصرم في مجال المساواة الجندرية بين النساء والرجال، وما ينتظر الإنجاز لتخفيف معاناة المرأة الناتجة عن جنسها، وتمكينها من أن تلعب دورا أكبر وأنفع للمجتمع.

بدأت فكرة تخصيص يوم  محدد للمرأة عام 1911 في ألمانيا واختير يوم 19 آذار للاحتفال به والذي يتزامن مع وعد أطلقه ملك بروسيا، فردريك ويليام الرابع، عام 1848، بالسماح للنساء بالتصويت، رغم أنه لم يفِ بذلك الوعد، ولم تشارك المرأة في الانتخابات إلا عام 1893 في نيوزلندة. ثم انتقل الاحتفال بعيد المرأة عام 1913 إلى الثامن من آذار وهو اليوم الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1977 بهدف لفت الانتباه إلى التمييز ضد النساء والعمل على إزالته.

وإذا ما تفحصنا مجتمعاتنا العربية بدقة فإننا نرى أن هناك الكثير الذي يمكننا أن نفعله للتخفيف من معاناة المرأة ورفع الظلم عنها وتنشيط دورها وتمكينها من أداء دور فاعل في تطوير المجتمع وتنمية الاقتصاد، فلا يمكننا أن نتطور أو نلحق بالمجتمعات المتطورة إن بقيت طاقات المرأة ومهاراتها وقدراتها معطلة أو غير مستثمرة كليا، وإن بقي دورها هامشيا، سواء في المنزل أو المؤسسة أو المجتمع، مقتصرا على الرعاية وإطفاء الحرائق.

أول ما يجب أن تنظر فيه الدولة الحديثة هو إن كانت المرأة محترمة في العائلة قبل المجتمع. فالمجتمع البشري منذ فجر التأريخ قائم على القوة العضلية والعسكرية، وهذه القوة أصبحت حكرا على الرجال، بينما اصبح النساء ضحايا لها لأنهن لا يعتمدن على هذا النوع من القوة. وفي ظل هيمنة الرجل تأريخيا على الحياة العامة والخاصة، ظلت المرأة تعاني الظلم والتهميش والإهانة والاعتماد على الرجل في كسب عيشها وعيش أبنائها.

لقد كشف التقرير الأخير لمنظمة الشفافية الدولية الذي تزامن مع عيد المراة العالمي، التجاوزات التي تعاني منها النساء في العالم أجمع، بعد كل ما حققته الحضارة البشرية من تقدم ونجاح في المجالات كافة. وقد أولى التقرير اهتماما خاصا لما سمّاه بـ"الابتزاز الجنسي" أو (sextortion) الذي تعاني منه النساء. وقال التقرير إن رجال الشرطة والمدرسين وضباط الهجرة وموظفي الدولة والمديرين، بل وحتى القضاة، يستخدمون نفوذهم لابتزاز النساء ومراودتهن عن أنفسهن والضغط عليهن لإرضاء نزوات ذكورية معينة. إن هذه المعاملة الدنيئة وغير الأخلاقية وغير الإنسانية هي حقا عار على البشرية، وعلى ممارسيها من الرجال تحديدا. ويبقى السؤال المهم دون جواب: لماذا تبقى المرأة في القرن الحادي والعشرين تعاني التمييز والضغوط النفسية والمعيشية بسبب تكوينها الفسيولوجي الذي له الفضل على البشرية في البقاء والاستقرار وحفظ النسل والسلام.

كما كشف تقرير الأمم المتحدة لعام 2019 (قسم أهداف التنمية المستدامة) أن 18% من النساء المقترنات برجال بين سن 15-49 قد تعرضن للعنف الجسدي على أيدي شركائهن! وقد تكون هذه النسبة متدنية حقا لأن أكثر النساء، وفي كل الثقافات، بما فيها الثقافة الغربية المنفتحة، يترددن في فضح تعامل أفراد أسرهن معهن، لذلك تأسست أقسام خاصة في مراكز الشرطة في الدول الغربية للتعامل مع ما يسمى بـ(العنف الأسري). مازال النساء ضحية للحروب والعنف والحرمان والقيود في بلدان كثيرة، بما فيها بلدان العالم المتقدم الذي شرّع قوانين عديدة لحفظ كرامة المرأة وحمايتها من كل أنواع الاستغلال، وخصوصا الاستغلال الجنسي.

مازال (ختان النساء) يمارس في بعض المجتمعات التي تتوهم بأنه فريضة دينية أو ضرورة صحية أو حاجة اجتماعية! بينما هو في الحقيقة اعتداء على كرامة المرأة والقيم الدينية في الوقت نفسه، ولا علاقة له بالصحة أو السلوك الحياتي والاجتماعي. وحسب تقرير الأمم المتحدة السالف الذكر فإن مئتي مليون امرأة يقعن ضحايا لهذه الممارسة المخالفة للقانون في كثير من دول العالم، علما أن هذه الممارسة انخفضت بنسبة 25% خلال العقدين المنصرمين.

كما تشير البيانات التي جُمِعت من 90 بلدا إلى أن النساء مازلن يمضين ثلاثة أضعاف ما يمضيه الرجال من الوقت في الأعمال غير المدفوعة الأجر (السخرة)، ما يقلص الوقت المتاح لهن للتعلم أو  الراحة والاستجمام. ومازال تمثيل النساء السياسي متدنيا عالميا مقارنة بنسبتهن في المجتمع، إذ تصل النسبة إلى 24% فقط. أما نسبة النساء بين شاغلي المواقع الإدارية في العالم فلم تتعدّ 27% علما أن نسبتهن بين الأيدي العاملة بلغت 39%. وماتزال هناك فجوات في القوانين التي تعالج العنف ضد النساء بنسبة تصل إلى 25%، والتمييز في الوظائف بنسبة 29% حسب بيانات جُمِعت من 53 بلدا.

أما في عالمنا العربي، فإن المرأة ماتزال تعاني على مختلف الصعد وهذا يستدعي مراجعة القوانين المرعية كي تنتصر للمرأة. بعض المجتمعات "تحميها" عبر عزلها عن المجتمع كليا وأخرى "تحميها" عبر فرض قيود على حريتها، ومنعها من العمل أو التعلم. مع ذلك، هناك قيم مازالت سائدة في العالم العربي تحمي المرأة من الاستغلال الجنسي والإهانة، ألا وهي قيم الشرف والعفة والشهامة والكرامة. نعم إنها قيم رفيعة، ولكنها تُستخدَم في أحيان كثيرة ضد المرأة لانها قيم تتعلق بأحاسيس الرجال وليس وقائع النساء. فمازالت جريمة (غسل العار) تمارس ضد النساء في بعض المجتمعات، بل تمارس حتى ضد ضحايا الاغتصاب، في إجراء تعسفي  يمثل أقسى وأقصى درجات الظلم الذي يمارسه بنو البشر ضد أنفسهم، بل ضد أرَقِّ وأرقى نوع   فيهم. ومازالت (النهوة) تمارس في بعض البلدان والتي تسمح للأقارب أن يعترضوا على زواج قريباتهم! ومازال كثيرون يعتبرون المرأة (عورة)، ربما لعمى متأصل في عيونهم كما قالت إحدى الناشطات.

نعم المرأة العربية تحقق تقدما، وقد ازدادت نسبة المتعلمات والمثقفات والموظفات والعاملات بينهن زيادة مطردة. كما ازدادت نسبة تمثيلهن، سياسيا ومهنيا في المجتمع. في العراق مثلا، وبعد تضحيات كبيرة قدمتها المرأة، أصبحت المرأة تشارك في كل نشاطات المجتمع، وأصبح النساء يقُدن التظاهرات والاحتجاجات، ويتصدرن الصفوف في البرلمان والحكومة والجامعات والمؤسسات والمدارس والحكومات والجيش والشرطة. وفي لبنان بقيت المرأة في المقدمة في كل حقل ومحفل وتضاعف تمثيلها السياسي في الحكومة الأخيرة. وفي تونس مازالت المرأة تتقدم الصفوف بل وتتقدم على الرجل أحيانا. في اليمن حصلت المرأة على جائزة نوبل، وهذه هي المرة الأولى في العالم العربي. وفي السودان ساهمت بشكل فعال في الشؤون السياسية والثقافية. وفي مصر، المرأة تقود الجامعات ومراكز الأبحاث وتترأس تحرير المجلات العلمية وتدير المستشفيات والمؤسسات وتشارك في الحكومة. وفي المغرب، المرأة قائد شجاع في المجتمع. وفي دول الخليج ازدادت أعداد سيدات الأعمال والأكاديميات والصحفيات بشكل ملحوظ خلال العقد المنصرم. نعم هناك تقدم وهناك نجاح ولكنه دون الطموح.

غالبية النساء مازلن بحاجة لأن يخرجن من قوقعة المنزل إلى العمل، إلى التعلم والتعليم، إلى النشاطات الاجتماعية والسياسية، وإلى الخدمة العامة والمساهمة في التنمية الاقتصادية وتطوير المجتمع وإدارة الدولة. ومازالت المرأة (عاطلة) أو متفرجة، فستبقى مجتمعاتنا فقيرة ومحتاجة ومتخلفة عن ركب المجتمعات المتقدمة. في العراق اصبحن وزيرات ومديرات وقاضيات ونائبات، لكن الرجال هم من يتخذون قرار تعيينهن في مناصبهن في أكثر الأحيان، ولولا قانون (الكووتا) النسائية لما وصل البرلمان سوى قلة من النساء. الحركات الأصولية مازالت تعادي المرأة باسم الله، والله هو الذي خلق المرأة وأسبغ عليها من مزايا الرحمة والجمال والسكينة ما لا يتمتع به أخوها الرجل. الله هو الذي منح المرأة هذه الهالة وهبة الحنان والحب التي تسبغها على أولادها وأهلها.

الثامن من آذار مناسبة للمراجعة والتعرف على الإنجازات التي تحققت كي نواصل تحقيق المزيد منها، والعقبات التي أعاقت التقدم كي نذللها. وفي هذه المناسبة الأثيرة، تحية لكل امرأة سعت لنيل حقوقها خلال العام المنصرم، ولكل رجل سهَّل لها هذه المهمة.