لعل من أهم ما أنجزته حركة الاحتجاج العراقية الحالية، إعادة تعريف الشرعية الأخلاقية للنظام السياسي، من المعارضة لنظام صدام حسين، إلى أداء النخبة السياسية الحالية في الحكم.
على مدى أكثر من عقد، بعد إسقاط نظام صدام، استخدمت أغلبية النخبة السياسية الحاكمة، بشقيها الشيعي والكردي خصوصا، معارضتها لنظام صدام حسين أساسا لبناء شرعيتها السياسية والأخلاقية، التي عبرها استطاعت تشكيل جمهور انتخابي واسع موال لها ضَمِن لها الوصول "ديموقراطيا" إلى مواقع السلطة والقرار، لتفرض هيمنتها على مؤسسات الدولة واحتكارها لمناصبها المؤثرة.
ولم يؤد تولي المعارضين السابقين لنظام صدام حسين مواقعَ السلطةِ والقرارِ، بما يعنيه هذا من تحملهم المسؤولية القانونية والسياسية والأخلاقية عن السياسات والقرارات التي يتخذونها، إلى تحولهم من رجال معارضة، همهم الأساس تقويض خصم قوي وظالم، إلى ساسة دولة، سعيهم الأول بناء وقائع إيجابية في حياة الناس، تمحو أو تخفف وقائع الظلم السابق.
العكس هو الذي حدث، إذ هيمن تفكير المعارضة، بما ينطوي عليه من هواجس وارتياب وصراع مع الآخر، على الحكم وثقافته في العراق "الديمقراطي الجديد" ليقود هذا إلى صناعة سياسات وقرارات مصلحية ضيقة، قصيرة النظر، وثأرية الطابع، وإلى تكريس ممارسات فئوية شديدة الحزبية، مما أسهم في المزيد من تفكيك الدولة وانقسام المجتمع، وتعريض السلم الأهلي للخطر.
باختصار، انتقلت أمراض المعارضة العراقية وعاداتها السيئة، خصوصا لجهة تفكك قوى هذه المعارضة حينها وصراعها الشديد مع بعضها في سنوات النفي، إلى أمراض الحكم، لتصبح تجربة هذا الحكم، في جوانب كثيرة منه، امتداداً وتكريساً لتجربة المعارضة، التي لم تكن ناجحة على الإطلاق. فعلى مدى سنوات النفي والعمل المعارض الطويلة، عجزت قوى المعارضة العراقية عن العمل بتماسك وفاعلية لإطاحة نظام صدام حسين، وصناعة رؤية مشتركة بناءة ومقنعة لكيفية إدارة عراق ما بعد صدام.
كان المثال المبكر بعد 2003 على الفشل الذريع لساسة المعارضة في إدارة الحكم، هو ملف العدالة الانتقالية البالغ الأهمية. في الدول التي تنتقل من أنظمة حكم قمعية ومغلقة إلى أخرى ديمقراطية ومفتوحة، لابد من وجود فترة انتقالية، يجرى فيها التعامل مع مظالم العهد السابق، وتسويتها قضائيا وقانونياً وسياسيا، عبر معاقبة الجناة، كأفراد، وتعويض الضحايا وتأهيلهم، كأفراد أيضا، وصولا إلى تطبيع الأوضاع والتحول إلى مرحلة استقرار لا تهيمن عليها مخاوف الماضي، بل طموحات المستقبل. لكن في العراق، تحولت هذه الفترة الانتقالية إلى مرحلة دائمة ومنتجة للأزمات، اتخذت اسم العملية السياسية، وتحول عبرها ملف العدالة الانتقالية، من سعي مؤسساتي منصف لإيقاع العقاب وإنصاف الضحايا على أساس فردي، إلى صراع مستمر بين المجاميع، رعته وغذته واستفادت منه النخبة السياسية الحاكمة.
من هنا كان بروز خطاب المكونات، وليس المواطنة الفردية المتساوية، سبيلاً التفافياً لتحميل جماعة كاملة أخطاء الماضي (السنة)، واعتبار جماعات أخرى ضحية (الشيعة والأكراد) ضمن سعي أوسع لترسيخ هوياتية فئوية في المجتمع والسياسة. على هذا النحو، تحولت قوانين كتلك المرتبطة باجتثاث البعث ومكافحة الإرهاب والفصل السياسي، من أدوات لتطبيق العدالة الانتقالية، إلى أخرى مُشرِعِنة للثأر والتمييز والعقاب الجماعي، مما تسبب في مظالم جديدة، تضاف إلى مظالم العهد القمعي السابق، التي ظل الكثير منها من دون حلول منصفة، فضلاً عن بروز صراعات جديدة مفتوحة على تجدد مستمر يتم تحريكها بدوافع انتهازية عند الحاجة الانتخابية أو السياسية لها. قدمت الصراعات الناشئة من هذه السياسات الإشكالية، تبريرات سهلة لساسة الحكم، تعفيهم من التزامات الإنجاز أمام جمهورهم.
كان نجاح الحكم الجديد في ترسيخ الهوياتية الفئوية، مذهبيا وعرقيا، بدلا من الوطنية العراقية، كأساس في تعريف الانتماء وممارسة السياسة، عاملاً مهماً في إقناع الجمهور بالقبول بالتوزيع المكوناتي للهوية والدفاع عن السياسات الناشئة عن مثل هذا التوزيع في خضم لحظة مفصلية، طويلة زمنياً، كان معظم هذا الجمهور واقعاً بشدة تحت التأثير المضلل للهويات الفرعية المؤدلجة، بوصفها الحامية المناسبة لحقوق الجماعات المنتمية لها، بدلاً من المؤسسات الرصينة لدولة ديمقراطية فاعلة.
وَفّرَ هذا التخدير الهوياتي لمعظم الجمهور، بما انطوى عليه من غياب المساءلة الشعبية الجادة والتنصل الحكومي عن تحمل مسؤولية عواقب السياسات والقرارات السيئة، الفرصَ المناسبة لساسة الدولة، لدخولهم السهل في عالم الفساد المؤسساتي والمالي، والتمتع بمغانمه، وصناعة شروط احتكار النخبة الحزبية الحاكمة لمواقع السلطة، من خلال قدرتها على تقديم الرشاوى الانتخابية والمؤسساتية الكافية لتجدد بقائها في الحكم.
كان سقوط الموصل بيد تنظيم داعش عام 2014، وانهيار الجيش هناك، لحظة تحول مفصلية، أسهمت في إنهاء التخدير الهوياتي، الذي منع الرؤية الصحيحة للواقع، فرغم الغضب الشيعي الهائل ضد تنظيم داعش، كان هناك غضب آخر مصاحب له ضد النخبة الشيعية المهيمنة، بسبب فشلها في بناء دولة رصينة تستطيع مواجهة التحديات الأمنية وتمنع سقوط ثلث البلد بيد تنظيم إرهابي عمره بضع سنوات فقط. بعد الانتهاء من عمليات التحرير العسكرية واستعادة الموصل التي تحمل الجمهور الشيعي جزءاً كبيراً من فاتورتها الإنسانية المكلفة، تحول هذا الجمهور بسرعة لافتة، إن لم تكن مثيرة للإعجاب، إلى المطالبة الجدية بالإصلاح المؤسساتي والخدماتي، وتعقب الفساد ومحاسبة المسؤولين عنه. أثارت هذه المطالبة المشروعة سلسلةَ احتجاجات شعبية وحزبية وسط البلد وجنوبه، بعد عام 2014 طابعها إصلاحي مطلبي، من دون إطار سياسي وطني لها.
وجاءت احتجاجات أكتوبر 2019 لتمثل قفزة مهمة إلى الأمام في معنى الاحتجاج ببعده الإصلاحي الجذري الشامل، وليس المطلبي المحدود سواء خدماتياً أم اقتصادياً، ووضعه ضمن إطار سياسي وطني صحيح، يربط الاعتراض الشعبي الهائل ضد السلطة الحاكمة بأدائها في الحكم الحالي، وليس بسجلها في المعارضة السابقة. من هنا، استطاعت حركة الاحتجاج، جعل الأداء في الدولة بما يتمخض عنه من إنجازات أو فشل، معيار التقييم الوحيد للساسة بعيداً عن سجل معارضة سابقة لا يكشف عن مهارات البناء وإنما عن أحاسيس الالتصاق الهوياتي وقدرة الدفاع عنه في إطار حركة معارضة فشلت في أن تكون وطنية في المنفى، كما فشلت في أن تكون وطنية في الحكم.
هذا التحول البطيء والمكلف، لكن المهم نهاية المطاف، في الوعي الشعبي العام من اعتماد مرجعية المعارضة إلى اعتماد مرجعية الحكم كأساس للفهم السياسي والفعل الاجتماعي، إنجاز احتجاجي كبير ليس فقط لأنه ينزع من النخبة السياسية الحاكمة آخر أسلحتها المعنوية ويسلط عليها ضغطاً جديداً وصحيحاً، بل لأنه يضع الجمهور العراقي على طريق الواقعية السياسية، ويمنع هذا الجمهور من الوقوع من جديد ضحية لأنواع أخرى من التخدير الهوياتي والتخويف من "الآخر" العراقي.
يستبطن كل هذا نضجا ضروريا، لا يمكن بناء تجربة ديمقراطية وطنية رصينة من دونه، أو اختصرته حركة الاحتجاج ببراعة بشعار "نريد وطنا". ورغم الآمها الكبيرة والكثيرة والمتواصلة، استطاعت احتجاجات أكتوبر، بذكاء وشجاعة نادرتين، أن تضع البلد على السكة الصحيحة أخيرا... إنها سكة البدايات الصحيحة، وإن كانت متأخرة.