ليس من حق أحد أن يتدخل في عقائد الناس، فهذا يقع ضمن حقوق الإنسان المتاحة لكل بني البشر، وقد كفلتها القوانين والأعراف والأديان نفسها.

وقد أشار إليها القرآن الكريم في آيات عديدة منها (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر-الكهف 29) و(لو شاء ربُّك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين-يونس-99) (فذكِّر إنما أنت مذكِّر، لست عليهم بمسيطر-الغاشية 22)  و(لكم دينكم ولي دين-الكافرون-6) و(لو شاء ربُّك لجعل الناس أمة واحدة وما يزالون مختلفين-هود 118) بالإضافة إلى الأحاديث النبوية الكثيرة وسير الخلفاء والأئمة التي تشير إلى حق الناس في الاختلاف والإيمان بما تقتنع به.

غير أن من حقنا أن نقلق ونحترس إن كان إيمان الآخرين بعقائد تهدد السلم الاجتماعي وتؤثر على حياتنا وتضعف بلداننا وتعيدنا إلى عهود سحيقة، بينما العالم يتقدم بخطوات سريعة وحياة الشعوب الأخرى تتطور وتصبح أكثر تنظيما وسعادة. من حقنا كشعوب أن نعترض، خصوصا وأن كثيرين منا لا يؤمنون بهذه المعتقدات التي تتنافى مع العقل السليم والعلم والدين الصحيح والمصلحة العامة والقانون الدولي ومنطق العصر، ويؤدي العمل بها إلى تخريب الأوطان والعلاقات مع دول العالم وشعوبه.

هناك الآن حركات (مهدوية) مسلحة في بعض البلدان، ومنها العراق، تؤمن بأن المرشد الإيراني علي خامنئي هو (المُمَهِّد) لظهور المهدي المنتظر، باعتبار أن هناك (رواية) تأريخية تؤمن بها هذه الجماعات، تقول إنه يظهر رجل من المشرق، وتحديدا من إيران، التي كانت تسمى (خُراسان)، وأن هذا الشخص (الخُراساني) سوف يناصره المؤمنون ويكون معه أربعةُ (أوتاد)، بينهم الخضر والياس، وأربعون من (الأبدال) وسبعون من (النجباء) وثلاثمئة وستون من (الصالحين)! ويقول الكفعمي في (المصباح إن الأوتاد يمكن أن يكونوا أكثر من أربعة والأبدال أكثر من أربعين و(النجباء) أكثر من سبعين و(الصالحين) أكثر من 360.

وتذكر روايات أخرى أن مَلَكَا ينادي فوق رأس المهدي عند ظهوره قائلا: (هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه، فيقبل عليه الناس ويُشربون حبه، وأنه يملك الأرض شرقها وغربها، وأن الذين يبايعونه أولاً بين الركن والمقام بعدد أهل بدر، ثم تأتيه "أبدال" الشام و"نجباء" مصر و"عصائب" أهل الشرق وأشباههم. ويبعث الله جيشاً "من خُراسان" برايات سود نصرةً له، ثم يتوجه إلى الشام، وفي رواية إلى الكوفة، والجمع ممكن، وأن الله تعالى يؤيده بثلاثة آلاف من الملائكة، وأن أهل الكهف من أعوانه)، علي الكوراني (عصر الظهور-ص 302) .

فكرة المهدي أو المنقذ ليست جديدة بل هي موجودة في معظم الأديان، وعند الشيعة هو الإمام الثاني عشر، الذي ولد قبل 1200 عام وسوف يظهر آخر الزمان. أما التمهيد له، الذي تتبناه بعض الجماعات الشيعية، فيتلخص بأن هذه الجماعات تعطي لنفسها الحق بأن تتدخل في حياة الناس إلى حد قتلهم ونهب ممتلكاتهم وفرض رؤاها عليهم بقصد تمهيد الأوضاع كي يظهر المهدي ليحكم، فهي من هذا المنطلق "تسهِّل" عليه مَهَمَّتَه. وقد مارست جماعات كثيرة في العراق هذا الدور منذ عام 2003 وعلى مرأى ومسمع من الحكومة، فأخذت تقتل وتخطف وتنهب، بل إن بعضها أقام محاكم (شرعية) وسجونا لحبس من يخالفها.

قبل أيام، اقتحمت جماعة مسلحة يرتدي أعضاؤها قبعاتٍ زرقاء، ساحات التظاهر في النجف وبغداد والبصرة ومدن أخرى وقتلت وجرحت العشرات بحجة (تصحيح مسار التظاهرات)! والمعروف أن القبعات الزرقاء (blue beret)  يرتديها منتسبو قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فقط، كي يميزوا أنفسهم عن منتسبي القوات الأخرى. وهناك أخبار بأن مشروبات وأطعمة مسممة قُدِّمت إلى المحتجين في بغداد بهدف إيذائهم وتشتيتهم، وكل ذلك يُبرر دينيا باعتبار أن المحتجين يعارضون الحكم الإسلامي الحالي في العراق.

لست هنا مشككا بعقائد الناس، فلا توجد مشكلة في أن يعتقد المرء بما يشاء، وأن تكون له قناعاتٌ خاصةٌ به، حتى وإن كانت غريبة وطوباوية وغير منطقية، ولكن أن يحمل السلاح ويحاول قمع الناس وإرغامها على (الإيمان) بمعتقداته ويتسلم أوامره من دولة أخرى، فهذا أمر في غاية الخطورة لأنه يزعزع استقرار الدولة ويربك حياة الناس وأعمالها ونشاطاتها، ويُمَكِّن دولة أخرى من استغلال بلده وانتهاك سيادته واستغلال ثرواته.

ويصبح الأمر أكثر خطورة عندما تقف دولة كبيرة كإيران وراء هذه الجماعات المسلحة وتزودها بالمال والسلاح  والخطط والأفكار والشرعية الدينية من أجل زعزعة استقرار البلدان الأخرى، ولا ننسى أن هذه الجماعات تعتقد بأن خامنئي، هو الذي (يمهِّد) لظهور المهدي وأنها ستعمل تحت قيادته وأن قادتها (أوتاد) ويعوض عنهم أربعون من (الأبدال) وأن أعضاءها (نجباء) و(صالحون). والغريب أن إيران تدعم هذه الجماعات خارج حدودها فقط، بينما لا توجد حركة (مهدوية) واحدة داخل إيران تسعى للتمهيد للمهدي، سواء كانت تساند أم تعارض (المُمَهد) خامنئي وأفكارَه وآراءَه وخططَه.

الدولة الحديثة، ابتداء، لا تسمح مطلقا بوجود جماعات مسلحة على أراضيها، بل تلاحقهم وتضعهم في السجون، لأن السلاح يجب أن يكون محصورا بيد الجيش والشرطة، أي القوى الرسمية الممثلة للدولة، وهذا هو دَيْدَن الدول الديمقراطية والدكتاتورية والجمهورية والملكية والسلطانية والإمبراطورية والأميرية، بل وكل أنواع الدول التي أقيمت في العالم عبر التأريخ. وإن قبلت الدولة على مضض بوجود جماعة مسلحة مستقلة عنها لفترة مؤقتة، لأي سبب كان، كوجود الاحتلال او جماعات إرهابية، كما حصل في العراق أثناء سيطرة تنظيم داعش على بعض المناطق، فهي لا تقبل بأي حال من الأحوال، بتبعية هذه الجماعات المسلحة لدولة أخرى، وإن قبلت بتبعيتها لدولة أخرى، وهذا محال، لكن فرض المحال ليس بمحال، فلا يمكن أن تسمح بوجود جماعة تحمل السلاح لتنفيذ أوامر زعيم دولة أخرى وخططِه في بلدها لمجرد أنها تؤمن بأن طاعته واجبة باعتباره المُمهِّد للمهدي المنتظر.

وجود مثل هذه الجماعات اصبح خطرا داهما على الدولة، خصوصا مع اشتداد سطوتها العسكرية، وحكام العراق وسياسيوه يتحملون اليوم مسؤولية وطنية وأخلاقية ودينية وتأريخية ودولية إن سمحوا لهذه الجماعات بالعمل بحرية، ومنحوها صفة رسمية وهويات رسمية ورواتب من الدولة، التي تعمل هذه الجماعات على تفتيتها وقمع أهلها، انصياعا لأوامر قادة دولة أخرى.

إن سقطت الدولة العراقية بأيدي هذه الجماعات فإن القضية لن تنتهي بسقوط العراق، بل إن مشروع هذه الجماعات، ومن يقف وراءها، سينتقل إلى دول أخرى، لأن المهدي، في نظرها، يجب أن يسود حكمه العالم كما صرح بذلك الشيخ صلاح عبيد، عضو حزب الله اللبناني، الذي قال في برنامج بثه التلفزيون البريطاني، إنه يؤمن بقيام "جمهورية العالم الإسلامية التي يقودها المهدي المنتظر الذي سيظهر".

هناك الآن عشرات الجماعات المهدوية في العراق وبلدان أخرى، أكثرها يحمل السلاح، وهي تعمل وفق (روايات) تأريخية موضوعة عن قصد، تُنسَب إلى أئمة وصالحين وفقهاء، وهذه الجماعات بطبيعتها لا تنسجم مع منهج الدولة الحديثة، وإن هي أقدمت على تنفيذ ما تؤمن به فسوف ينتهي الأمر بالعراق إلى دولة ممزقة تشكل خطرا على شعبها ودول المنطقة والعالم.

مرة أخرى، لا توجد مشكلة مع أي فكرة إن بقيت سلمية وعقلانية وذات علاقة بمصالح الناس، لكن المشكلة في العراق، ودول أخرى معروفة، أن هذه الجماعات التي تقدس خامنئي وتعتبره (مُمَهِّدا للمهدي المنتظر)، وتستمد منه قوتها وشرعيتها الدينية، تشكل خطرا حقيقيا على الدولة العراقية، وعلى كل من يهمه أمر العراق ومستقبله، خصوصا الشعب العراقي المنتفض، أن ينتبه جديا إلى هذا الخطر الداهم.

هذه جماعات تحمل عقيدة دينية تتناقض كليا مع سلطة الدولة العصرية والقانون الدولي، وهي مدربة ومسلحة ومدعومة بقوة من دولة كبيرة، فكيف يمكن التصالح معها إن بقيت مسلحة وتسعى لتحقيق أهداف قائدها خامنئي عن طريق السلاح والقمع وتغييب المختلفين معها؟ ولو أن العراقيين جميعا اتفقوا معها وساروا على نهجها واعتبروا خامنئي ممهدا للمهدي ووليا لأمر المسلمين، كما يحلو له أن يسمي نفسه، فماذا ستكون النتيجة؟ هل ستقبل دول المنطقة بهذا الوضع؟ وهل سيتعايش المجتمع الدولي مع جماعات مسلحة تريد فرض عقائدها الغرائبية عليه؟ هل تقبل دول الجوار أن تنصاع لخطط وأفكار هذه الجماعات؟ أما أننا سنجد أنفسنا على اعتاب حرب أخرى لا تبقي ولا تذر هذه المرة، وتدخل دولٌ أخرى طرفا فيها؟.

مصلحة العراق، وكذلك دول المنطقة والمجتمع الدولي، تقتضي بأن ينتبه العراقيون، سياسيين ورجال دين ومفكرين وأكاديميين ومثقفين وصحفيين وأشخاصا عاديين، إلى هذا الخطر المحدق ببلدهم وبمجتمعهم. صحيح أن هذه الجماعات لا تعلن تفصيليا عن أفكارها حاليا، ولكننا نعرف أهدافها ومن يقف وراءها وهي لم تتردد في الإعلان عن نواياها وقد اختارت أسماء تشير بوضوح إلى أفكارها وخططها. إن التهاون مع هذه الجماعات ومن يدعمها ويقف خلفها سيقودنا إلى كوارث مدمرة مستقبلا. لابد من العمل الآن على حظرها ومحاكمة قادتها على الجرائم التي ارتكبوها بحق العراق وشعبه.