قبل أيام معدودات كانت العاصمة البريطانية لندن تشهد زخما شديدا تمثل في قمة الاستثمار البريطاينة الإفريقية والتي شاركت فيها 53 دولة إفريقية ومع قيادة مصرية في فتح الطريق أمام الاستثمارات البريطانية في القارة السمراء.
علامة الاستفهام الأولى التي تقابل المحلل السياسي المحقق والمدقق:" هل نحن أمام قمة جاءت بها المصادفة سواء الموضوعية أو التاريخية، أم أننا أمام سردية قطبية كبرى تجري بها الأقدار ضمن إطار التغيرات الجيوسياسية، والتداعيات الجيوبوليتيكية التي تحدث في عالمنا المعاصر؟
هناك اتفاق بين عموم المؤرخين السياسيين على أنه لا شيء يحدث عشوائيا في عالم السياسة، وهذا ما يتم القطع به في الحالة البريطانية منذ عام 2016 حين قرر الشعب البريطاني الخروج من الاتحاد الأوربي، ووقتها أدلت رئيسة الوزراء المستقيلة لاحقا تريزا ماي بتصريح مثير للتأمل، إذ أشارت إلى أنه حان الوقت لعودة " بريطانيا العالمية".
كان لابد إذاً من الخروج من عباءة الاتحاد الأوربي ، كي تعود الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس لتغازل أحلام القطبية ولو من بوابة مغايرة لبوابة الاستعمار العسكري المباشر، ذاك الذي تجاوزته معطيات القرن الحادي والعشرين، وبدلاً منه ظهر فكر الجميع فائز، والذي يسمح للقوى الكبرى تقليديا أن تصيب نصيباً وافراً من كعكعة الاستثمارات التي تعوض عن الاحتلال المباشر ، وربما يرى الاقتصاديون أنها احتلال مقنع إن أتيحت له الفرصة.
أيقن البريطانيون أن منتجاتهم واستثماراتهم لن يكون لها مجال للترويج في الداخل الأوربي، وعليه كانت عقول بريطانيا ترى في إفريقيا أرض الفرص الشاسعة، ومن هنا انطلقت تريزا ماي في جولة إفريقية أولية زارت فيها ثلاثاً من كبريات الدول الإفريقية ذات الثقل والتاثير: جنوب إفريقيا، نيجيريا، كينيا، ووقعت اتفاق تبادل تجاري حر مع 6 دول بجنوب القارة الإفريقية، وهي ناميبيا وبوتسوانا وجنوب إفريقيا واسواتيني وليسوتو وموزامبي.
خلال ترؤسها للاتحاد الإفريقي نشطت مصر ونشطت الدول الإفريقية معها للخروج من شرنقة الفقر، ومع النظرة الاقتصادية المزدهرة لمصر، واكتشافاتها من الغاز في المتوسط والدلتا، والاستثمارات غير المسبوقة في التنقيب عن النفط، ما جعل من مصر مركزا متقدما للطاقة في المنطقة، وفي إطار بلورة منتدى غاز شرق المتوسط، والذي طلبت الولايات المتحدة الأميركية عضويته، أدركت الكثير من الحواضن والدوائر الاقتصادية العالمية أن القاهرة تعود من جديد بوابة لإفريقيا.
في هذا السياق أيضا أدرك كبار الاقتصاديين الأوربيين أنه ما من مجال في أوروبا أو أميركا للمزيد من مراكمة رأس المال، لا سيما بعد أن نفدت كل الفرص المتاحة، بخلاف الوضع في إفريقيا التي تحتاج إلى استثمارات وعمل منظم لمدة لا تقل عن مئتي عام قادمة، الأمر الذي يجعل من بريطانيا تراهن على القارة السمراء كموضع لاستثماراتها ومشروعاتها المستقبلية على أراضيها.
خلال الأعوام القليلة التي تلت ثورة يونيو 2013 عملت مصر جاهدة على دفع التعاون الإفريقي في مدارات ومساقات غير مسبوقة، ولم تعد القاهرة تخلو من زيارة لرئيس إفريقي أو رئيس حكومة بشكل أسبوعي، مما جعل مصر تشحذ الهمم تجاه فكرة السوق الإفريقية المشتركة، والتي تضم اليوم تعدادا سكانيا يصل إلى مليار و 300 مليون مستهلك، وهو رقم يتوقع له أن يرتفع في عام 2050 إلى مليارين ونصف المليار نسمة، مما يجعل من إفريقيا مساراً مزدوجا لشأنين اقتصاديين لا يمكن تجاهلهما:
الأول : هو أن هناك سوق واسع يمكن أن يضحي فرصة تاريخة لتصدير وترويج المنتجات البريطانية من الإبرة إلى الصاروخ كما يقال، وهو سوق نامٍ أي يحتاج إلى أي منتج وكل منتج.
الثاني: هو أن حديث الأعداد البشرية الهائلة لا ينفصل عن الموارد الطبيعية الساكنة تحت طبقات التربة السمراء، من نفط وغاز، معادن ثمينة، ذهب ويورانيوم، وسائر عناصر الصناعة.
غير أن هذه كلها في حاجة أولية إلى ما لا يقل عن 500 مليار دولار في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، كي تحدث طفرة إفريقية حقيقية في مجال التنمية المستدامة.