منذ تسع سنوات شُنّت حملة إعلامية عالمية ضد دبي على خلفية الأزمة المالية العالمية وأزمة الرهن العقاري التي كانت قد بدأت في العام 2008. وصاحب تلك الحملة تقارير غير صحيحة من وكالات التصنيف الائتماني التي كانت قد خسرت مصداقيتها مع اندلاع الأزمة العالمية آنذاك بسبب انكشاف طريقة عملها لناحية التصنيفات الخاطئة المسايرة للدول والشركات.
تلك الأخبار والشائعات كادت أن تفضي إلى كارثة مالية أكبر لو كان الإعلام المحلي آنذاك، متواطئا مع الإعلام الخارجي، ولولا وجود قيادة سياسية حكيمة تداركت الأمر وقامت بعمل تقييم داخلي وذاتي لكشف مكامن الخلل وإغلاقها قدر المستطاع، وهذا ساهم بنسبة كبيرة في تحييد الناس عن الركون لموجة هلع كان من الممكن أن تؤدي لكارثة.
دبي كانت لديها أصولا وأملاكا تغطي الديون التي عليها وأكثر، لكن الخبر السيء يبيع أسرع.
كنت وقتها قد انتقلت للعمل مع وكالة أنباء عالمية وتغطيتي كانت تتعلق بمالية الدول في المنطقة وكان عملي يتطلب ليس فقط البحث في الاستراتيجيات المالية والثغرات ومكامن الخلل في المنظومة المالية والموازنات وعمل المصارف المركزية، بل أيضا الصراع شبه اليومي مع كم هائل من الأخبار غير الصحيحة والشائعات التي كانت تتناقلها وسائل إعلام إقليمية ودولية وبعضها كان من وكالات الأنباء المنافسة، وحتى تقارير وكالات التصنيف.
رفضت نشر أخبار لمجرد أن الجميع يتداولها، لأن ذلك يؤثر على مصداقية ما أكتبه. وكنت في معظم الأحيان أتريث لأتأكد من المصادر الصحيحة وبالأرقام قبل أن أكتب عنها، وهو ما عرضني لضغوط من رؤسائي في وقت من الأوقات لمجاراة ما ينشره المنافسون - وكنا نطلق عليها مصطلح matching the story - كي لا تكون الوكالة متخلفة في نشر الأخبار الفورية عن غيرها.
جوابي كان دوما: هل تريدون خبرا الآن تضطرون لتكذيبه لاحقا؟ أم تريدون أخبارا يستند إليها المستثمرون ممن يتابعونكم وتكون موثوقة وبالتالي يستمرون في الاشتراك معكم بسبب المصداقية؟
لبنان، على مدى العام ونصف الماضيين واجه نفس الحملة الإعلامية العالمية والإقليمية، وبنفس الزخم، لكن الفارق أن الأمر صاحبه تواطؤ ومواكبة "على العمياني" من إعلام الداخل، الذي يفتقر لوجود عدد كاف من الإعلاميين الحيادين والمتخصصين فعلا في المجال الاقتصادي.
وترافق الأمر مع عدم وجود قياديين ماليين في المراكز الحكومية المتقدمة، وعدم اقتناع ديناصورات القطاع المالي بحقيقة أن البلد يتعرض لمثل هذه الحملة، وعدم وجود مركز قرار سياسي موحد لإحداث تغيير. فلا رئيس الجمهورية يملك صلاحيات الرئاسة التي كان يتمتع بها الموقع قبل تعديل الطائف، ولا رئيس مجلس النواب يستطيع اتخاذ قرار تنفيذي، ولا وجود لرئيس حكومة وحكومة فعلية يتمتعون ببعد نظر في مثل هذه المواضيع.
فمشكلة لبنان تكمن ليس فقط في قصر نظر السلطة التنفيذية، بل أيضا في سياسة الكيدية السياسية بين أحزاب الحكومة، بحيث لا يمكن الاتفاق على استراتيجية مالية واستراتيجية اقتصادية متكاملتين، من دون حصول مجازر سياسية.
تراجعت بعض وسائل الإعلام المرموقة لاحقا عن مقالاتها بسبب عدم وجود ما يثبت صحتها، ولكن بعد إحداث الضرر المنشود. كلنا نتذكر تقرير مجلة "إيكونومست" الذي قامت بربط الليرة بالاقتصاد، لتعود بعدها المجلة للتراجع عن الخبر بعد فترة ونشر تصحيح أن لا علاقة بين الاثنين!
ترافق هذا الأمر مع موجة التباطؤ الاقتصادي العالمي خلال العام 2019 التي أثرت في كثير من الاقتصادات حول العالم، ولبنان لم يكن بمنأى عنها. ومن ثم كانت الضغوط الدولية عبر وكالات التصنيف الائتماني، التي أقل ما يمكن القول عن تقاريرها أنها تنتمي لفئة "لف السندويشات".
هل قرأها أحدكم فعليا؟ ألم تلاحظوا كيفية صياغة الخبر؟ كلها في إطار التخمين. سأعطيكم مثالا. في أحدث تقريرين لوكالة "ستاندرد آند بورز" حول المصارف، بدأت الوكالة بالقول إن المصارف تواجه أزمة سيولة بسبب التطورات السياسية (وليس بسبب حالة الفزع التي خلقتها التقارير الاعلامية وانعدام استراتيجية لإدارة الأزمة المالية في لبنان، التي أدت لتدافع الناس لسحب ودائعهم)… كما اتجهت الوكالة لتصنيف أكبر 3 بنوك في لبنان على أنها في خانة المتخلفة عن الدفع وكأنها مفلسة، لأنها قامت بالحد من سقف السحوبات. تغاضت الوكالة عن أصول تلك المصارف التي تغطي أموال المودعين، وعن حقيقة أن السحب مستمر، وأنه لو سُمِحَ للبنانيين بسحب كامل ودائعهم بعد حملة التهويل التي استمرت
بين 2018 و2019، لكان الأمر تحول إلى كارثة فعلية.
أخطاء بالجملة
لن أعدد كل الأخطاء الفاحشة التي وقع فيها المسؤولون اللبنانيون، ولا جهل الشعب بالأمور الاقتصادية وتراكضه لسحب أمواله وتهافته على الدولار، ولا سوء إدارة المصرف المركزي ومسؤولي القطاع المالي لهذه الأزمة، وخاصة فيما يتعلق باستغلال الصيرفيين لحالة الهلع والتحكم بأسعار الصرف دون حسيب أو رقيب في أمر يهدد سلامة وأمن الدولة المالي.
على أن الأمر المشجع هو تحرك القضاء مؤخرا لكبح جماح جشع الصيارفة واللعبة التي قامت بها بعض المصارف بالتواطؤ معهم في هذا المجال.
سأتطرق للمؤتمر الصحفي الحالم للنائب حسن فضل الله، الخميس، وهو عضو في لجنة المال والموازنة اللبنانية، الذي أشار فيه إلى أن الدولة ستسعى لاسترداد الاموال غير الشرعية التي تم تهريبها للخارج والتي هي باسم أفراد في القطاع العام منذ التسعينات وحتى اليوم، بناء لقانون 44/2015.
المضحك أن السؤال كان يجب أن يكون، لماذا لم يتم تفعيل هذا القانون عند إقراره في العام 2015؟
قال إن التحقيق سيطاول الأموال المحولة والمودعة باسم افراد القطاع العام وليس تحت اسماء عائلاتهم وأصدقائهم وغيرها من الامور، لأن فضل الله يعتقد، وعن حسن نية، أن من ينهب المال العام سيقوم بتحويله باسمه الخاص. والمضحك أكثر أنه سأل رفاقه النواب إن كانت لديهم حسابات في الخارج وهم بالطبع أجابوا بالنفي.
قمة الكوميديا السوداء.
لبنان بحاجة لاستقرار سياسي لستة أشهر على الأقل مما يسمح باستقرار اقتصادي ووضع استراتيجية لمعالجة الوضع المالي.
الاقتصاد اللبناني اقتصاد مرن يعتمد بشكل كبير على القطاع الخاص، ومن هذا المنطلق على الشعب والأحزاب أن تعطي الرئيس المكلف الفرصة للمساهمة بإعطاء فرصة لهذا الشعب وللدولة ولاقتصادها أن يتنفسوا قليلا قبل الاتجاه لانتخابات جديدة وحكومة جديدة.
وأريد أن أشدد على أنني شخصيا أرى أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خدم مدته، لكنه لم يعد ينفع أن يكون رجل المرحلة القادمة. ديناصورات العصر المالي الماضي لا يمكن السماح لها بالاستمرار في خنق القطاع لاحقاً. برأيي، فإن عدم تواجد سلامة منذ اليوم الأول وبشكل فعال لاتخاذه إجراءات نافذة تحمي القطاع المالي هو ووزير المالية غير المختص، وعدم وضعهما لاستراتيجية لإدارة هذه الأزمة الخطيرة، وعدم استماعهما للنصح، هو من أهم أسباب تفاقم الأزمة. ولن أدخل في سياسات المصرف المركزي حتى الاسبوع الممتد ما قبل بداية الحراك لناحية عمليات السواب، ولا موضوع شهادات الإيداع والأرباح الخيالية التي جنتها المصارف في أقل من شهر في هذا الموضوع، لأن الأمر تم ولا يمكن عكسه.
يُقال إن سلامة مدعوم أميركيا وأن مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط دافيد هيل خلال زيارته للبنان أصر على بقاء سلامة لأنه يشكل حصانة للقطاع المصرفي. لا شيء حتى الآن يؤكد هذه المعطيات، كما وأن الإجراءات الأميركية بحق المصارف اللبنانية تحت ذريعة محاربة حزب الله، هي كانت سببا في الأزمة المالية، لذلك استبعد حرص الأميركيين على استقرار قطاعنا المالي.
لربما دعمهم الحالي ينطلق من مبدأ خوفهم من سقوطنا في أحضان روسيا، لكن الضرر قد وقع فعلا ولن يستطيع الأميركيون المساعدة إلا عبر رفع أيديهم وضغطهم عن الحكومة والمصارف في لبنان.
ويكفي أنه وبالرغم من كل ما قيل في الماضي، إلا أن أحدث تقرير لمصرف غولدمان ساكس، الذي كتبه خبير المصرف الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فاروق سوسة، وهو شخص أعرفه جيدا وأشهد له بسعة علمه وموضوعيته، يثبت ما أقوله.
فبحسبة سوسة، وعلى الرغم من الإشارات المقلقة التي يشهها لبنان، إلا أنه يرى أن اعتماد سلسلة من الإصلاحات في الموازنة، إضافة لإعادة هيكلة الدين بالليرة سيكون هو ما تحتاجه الدولة لضبط المالية العامة، دون أن تتجه نحو التخلف عن السداد بالدولار.
لا أتفق مع سوسة بالنسبة لرفع الضرائب، لكن ذلك أمر آخر قد أكتب عنه لاحقا فيما يتعلق بإصلاحات الموازنة.