لا يخامرنا شكّ في أنّ المرأة ضحيّةٌ للحيف الاجتماعيّ والسياسيّ في بلدان العالم كافّة، لا في بلداننا العربيّة والإسلاميّة على وجه الحصر، وأنّ الحيْف هذا ليس مَرَدُّهُ إلى أسباب دينيّة، كما يعتقِد البعض، بل إلى أسباب اجتماعيّة آكدها هيمنة القيم الذكوريّة والپَطْرِيَّركيّة في المجتمعات الإنسانيّة، منذ زمنٍ سحيق، وما تولَّد من هيمنتها من ترسُّخ ثقافة جمْعيّة ذكوريّة في المجتمعات البشريّة.

إذا كانت نسبة ذلك الحيف في بلدان بعينها، مثل بلدان الغرب، أقلّ ممّا هي عليه في بلادنا، فلا يقوم من ذلك دليل على أنّ تعاليم الدين فيها أكثر تسامحًا تجاه المرأة من تعاليم الدين عندنا، ولا أنّها – من وجهٍ آخر – تحرّرت من وطأة ثقل القيود الذكوريّة التي ما زلنا – نحن – نرزح فيها؛ ذلك أنّ المجتمع الذكوريّ أسبق في الوجود، من حيث الزمن والتاريخ، من المجتمعات الدينيّة التوحيديّة، تأثيراته فيها وفي العلاقات بين الجنسين داخلها ليست تقِلّ عن تأثيرات التعاليم الدينيّة ذات الصّلة.

في الأحوال جميعًا، ثمة حاجة علميّة إلى تحييد العوامل الدينيّة والروحيّة من مجال تفسير هذه "النازلة" ومثيلاتها من الظواهر الاجتماعيّة، من أجل بناء فهمٍ وإدراك صحيحين، أو أكثر صحّة، للظاهرة المدروسة. وهكذا، لا المسيحيّةُ الغربيّة مسؤولة عن التقدّم النسبيّ لأوضاع المرأة في المجتمعات الأوروبيّة والأمريكيّة، ولا الإسلام والمسيحيّةُ الشرقيّة مسؤولان عن تخلّف أوضاعها في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، تمامًا كما لا يجوز أن نعْزُوَ التقدّم الاقتصاديّ – العلميّ هناك إلى الدين (على مثال ما فَعَل ماكس ڤيبر)، أو أن نعزُوَ تخلّفها هنا إلى الدين.

هذه ظواهر اجتماعيّة لا تُدْرك إلاّ بأدوات التحليل الاجتماعيّ؛ الأدوات التي تستدخل في منظومة مبادئ التفسير العوامل الماديّة، في المقام الأوّل، محاذِرةً السقوط في نزعة ثقافويّة Culturaliste تُرَدُّ الظاهرات الماديّة إلى مبادئ ثقافيّة! وغنيٌّ عن البيان أنّ طوفان هذه النزعة الثقافويّة، في التفكير اليوم، وإقحامَ فرضياتها الذهنيّة في تفسير ظواهر العالم جميعِها، إنّما هما تعبيران عن حالٍ من النكوص والانكماش في الوعي والفكر الإنسانيَّين سادت، خلال العقود الأخيرة، نتيجة التراجُع المروّع الذي أصاب منظومات التفسير الكبرى في الفكر والفلسفة وانبعاث الأفكار والنزعات الفكريّة المحافظة، واستباحتها مجالات المعرفة كافّة.

بالعودة إلى الفرضيّة (الثقافويّة) القاضية بأنّ قسمًا من الأسباب الكامنة وراء تخلّف أوضاع المرأة في مجتمعاتنا يكمَن في تعاليم الدين وأحكام نصوصه، وما تقضي به (تلك الأحكام) من تضييقٍ على حقوق المرأة – كما يزْعُم البعض – وتوسيعٍ على مثيلها لدى الرجال، تذهب إلى القول إنّ المسألة ليست في نصوص الأحكام تلك، وإنّما هي في تأويلها. والتأويل، مثلما يعرف كلُّ مَن تَمَرّس بالتأويليّات المعاصرة (= الهيرمينوطقيا)، فعْلٌ معرفيّ تتحكّم فيه جملةٌ من العوامل والخلفيّات – المُوعى بها وغيرِ المُوعى بها – تتدخّل في بنائه وتكييفه، وفي جملة العوامل تلك: المصالح، ومستوى المَدَارك، والأفكار واليقينيّات القبْليّة، والمكان والزمان، ومنظومة القيم السائدة... إلخ.

وهكذا، فإنّ متأوّل نصوص الأحكام المتعلّقة بالمرأة وحقوقها، في الإسلام وفي غير الإسلام، لا يَقْوى على التحرُّر من تأثير قبْلياته الذكوريّة، فتجده يتأوّلها بما يكرّس أرجحيّة الرجل ويرسّخ دونيّة المرأة، ويقدّم تأويله للنصّ الدينيّ بوصفه التفسير الأمين لأحكام الدين. يكفي المرءَ منّا أن يستعرض ما كُتِبَ ويُكتَب في الموضوع، في الدائرة العربيّة الإسلاميّة، لِيَلْحَظ إلى أيّ حدٍّ يجنح تأويل النصوص نحو التعبير عن نفسه كتأويلٍ ذكوريّ! ولسنا ننفي، في هذا المعرض، وجود قراءات أخرى اجتهاديّة (للنصّ الدينيّ) تحفَظ للمرأة اعتبارها وكرامتها، وتُقِرّ لها حقوقًا يستكثرها عليها آخرون باسم الدين، بل تنفي أن تكون تعاليم الدين هي من صَادَرَ تلك الحقوق منها.

هكذا نتأدّى من السياق السابق إلى فكرتيْن رئيستيْن: أولاهما أنّ المنزِع الذكوريّ يمكن أن يَتَلَبّس الوعي القارئ لنصوص الدين وأحكامه تجاه المرأة، فيكيّف الوعيَ ذاك ويوجّهه على النحو الذي يُغلّب مَرتبيّة الرجل وحقوقه ويبتخس ما للمرأة كإنسان (كمخلوق) من حقوق. وحينها، أعني حين نفهم المسألةَ على هذا النحو – نبرّئ ساحةَ الدين، ونوجّه إِصْبَع الاتّهام إلى النزعة الذكوريّة المتحكّمة في وعي المتديّن وسلوكه (وفهمه للدين). وثانيهما أنّ النزاع على حقوق المرأة في الشرع؛ بين رؤيةٍ محافظة إنكاريّة ورؤية منفتحة أنواريّة، صراع على تأويل النصّ.

وهذا صراع ليس مجرّدًا – مثلما – ألمحنا – من تأثيرات المصالح والخلفيّات والأهداف المُتَغَيّاة من تأويلات المؤوّلين. وبكلمة، هو صراع بشريّ، مدنيّ لا علاقة للدين وتعاليمه به. وهكذا يعود بنا إلى جذر المسألة الذي انطلقنا منه، وهو: إنّ مسألة المرأة، في بلادنا كما في العالم، مسألةٌ اجتماعيّةٌ – سياسيّة في المقام الأوّل.