خلال لقاء صحفي أجريته مع وزير الخارجية التركي حينها أحمد داود أوغلو، بعد أيام من صدور بيان جنيف الأول بشأن الأزمة في سوريا صيف 2012، سألته عن سبب موافقة تركيا على هذا البيان الذي يدعو إلى انتقال سلمي للسلطة في سوريا في حين أن أنقرة تطالب علنا بإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد.
قال حينها داود أوغلو: "لابد من إيجاد مخرج سياسي للأسد في حال قرر الخروج من السلطة، إذا تم حشره في الزاوية وتركه بدون أي خيار للخروج فإنه سيختار القتال حتى النهاية".
تذكرت هذا الحوار وأنا استمع لأحمد داود أوغلو وهو يعلن برنامج حزبه الجديد، الذي أنشأه في أنقرة "حزب المستقبل" في نفس الفندق الذي شهد الإعلان عن تأسيس حزب العدالة والتنمية قبل 18 عاما، وتساءلت في نفسي " هل يُعد داود أوغلو مخرجا سياسيا للرئيس رجب طيب أردوغان للخروج من السلطة من خلال هذا الحزب الجديد، الذي تشكل بأغلبية منشقين عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي كان ينتمي إليه؟".
لا أميل إلى تصديق التحليلات المؤامراتية التي خرجت بعيد إعلان داود أوغلو انشقاقه عن حزب العدالة والتنمية ونيته تشكيل حزب جديد والتي اعتبرت أن هذه ما هي إلا مسرحية تم ترتيبها بين أردوغان وداود أوغلو من أجل جمع المنشقين عن الحزب ومنعهم من الذهاب إلى الحزب الآخر، الذي يعمل على إنشائه وزير الاقتصاد الأسبق، علي باباجان، برعاية ودعم من الرئيس السابق، عبدالله غل، والذي اعتبره أصحاب هذه النظرية الحزب الأكثر خطرا على أردوغان، فالخلاف بين الرجلين حقيقي وقوي.
ولكن لعل من حقنا أن نسأل التالي "مع استمرار تراجع شعبية أردوغان وحزبه، وفي الوقت الذي قد يأتي مستقبلا ويرى فيه أردوغان أن حزبه وشعبيته لن يسعفاه للبقاء في السلطة لفترة جديدة، فأيهما سيختار وأيهما أفضل له ولتركيا، أن يصر على البقاء في السلطة من خلال تعطيل العمل السياسي واللجوء إلى الحيل الأمنية وتصفية الخصوم، أم أن ينسحب من المشهد ويترك السلطة لشخص يهمه المستقبل أكثر من نبش الماضي، في صفقة تضمن له الحصانة القضائية وتبقي على سيرته السياسية دون أن تمس؟ وهل أحمد داود أوغلو هو هذا الشخص؟"
ما يدفع لطرح هذا السؤال هو تلك النافذة التي تركها أحمد داود أوغلو مشرعة أمام أردوغان ربما ليفكر في هذا الأمر، من خلال تضمين برنامج حزبه المطالبة بالعودة إلى النظام البرلماني الديمقراطي مع كتابة دستور جديد يعيد الديمقراطية والحرية من جديد للبلاد، وهتاف الجماهير التي حضرت الإعلان عن تأسيس الحزب "رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو" وكأنها رسالة – مقصودة أو غير مقصودة – تعرض على أردوغان العودة إلى عام 2015 حين كان أحمد داود أوغلو رئيسا للوزراء وأردوغان رئيسا بصلاحيات شرفية. وفق الدستور الحالي لا يمكن لأردوغان الترشح للانتخابات الرئاسية المقررة عام 2023، لأنه ترشح لرئاسة تركيا مرتين، والحل الوحيد لترشحه من جديد هو إما الاحتكام إلى انتخابات مبكرة تعطي الرئيس حق الترشح مجددا لأنه لم ينه فترته الرئاسية وفق الدستور الحالي، أو وضع دستور جديد لتركيا ونظام حكم جديد برلماني يترك أمر ترشح أردوغان للرئاسة مرة أخرى رهنا لمفاوضات هذا الدستور الجديد.
وبما أن شعبية أردوغان وحزبه لا تشجعانه على خوص مغامرة الانتخابات المبكرة، فإنه إما أن ينتظر معجزة تعيد له شعبيته السابقة، أو أن يقبل بخيار وضع دستور جديد والعودة إلى النظام البرلماني إن هو أراد -ونعتقد أنه يريد وبقوة- البقاء في الساحة السياسية.
بعيدا عن هذا التحليل السياسي المستقبلي، يمكن القول بأن داود أوغلو بدأ بداية قوية، على الأقل فاقت توقعات المراقبين، ظهر قويا متمكنا وكعادته في قمة الحماس والطموح لإنشاء تركيا جديدة، ديمقراطية، متصالحة مع الجوار والغرب، وتوازن في علاقاتها الاستراتيجية مع الناتو وعلاقات قوية مع القوى الصاعدة الجديدة روسيا والصين. بل إن داود أوغلو ذهب أبعد من ذلك من خلال تقديم مقترحات جريئة لحل القضية الكردية.
كان الرئيس رجب طيب أردوغان قد حاول عرقلة مسيرة داود أوغلو الجديدة حين اتهمه الأسبوع الماضي "بالاحتيال" على أحد البنوك الحكومية لخصخصة جامعة شهير الخاصة في إسطنبول، التي تعتبر معقلا للأكاديميين المقربين من داود أوغلو، والذي سرعان ما رد على هذا الاتهام بطلب التحقيق في ثروات كبار المسؤولين في الحكومة ورؤساء الجمهورية وثروات عائلاتهم.
وكشف داود أوغلو في رده السرع والقوي هذا أنه لن يكون لقمة سائغة، وأنه يمتلك الكثير من الاسرار التي يمكنه كشفها وإحراج الرئيس أردوغان، الذي لاذ بالصمت -حتى الآن على الأقل- بعد رد داود أوغلو.
أخطأ أردوغان هنا بمحاولة ضرب خصمه بملف الفساد، فداود أوغلو قد يُتهم بأي شيء إلا الفساد المالي، ولا يمكن إقناع ناخبي الحزب الحاكم بهذه التهم. بالطبع مازال هناك بيد أردوغان عدد من الأوراق التي يمكنه أن يستخدمها ضد داود أوغلو وأهمها القضاء، لكن أردوغان يعلم أن الضرب تحت الحزام بات يقوي المعارضين ولا يكسرهم، ولا بد أنه تعلم من درس إعادة الانتخابات البلدية في إسطنبول بحجة وجود تزوير -لم يثبت حتى الآن – ما أدى إلى فوز المعارض أكرم إمام أوغلو بقوة أكبر وأصوات أكثر.
حزب "المستقبل" الذي أسسه داود أوغلو وتزعمه، ليس ندا لحزب العدالة والتنمية على الساحة السياسية، فاستطلاعات الرأي تشير إلى أن أكبر حصة من الأصوات قد يحصل عليها في أي انتخابات قادمة لن تتجاوز 10 بالمئة .
لكن هذه النسبة -وأقل منها- كافية لكي تطيح الرئيس أردوغان عن كرسي الحكم لأن غالبية أصوات هذا الحزب ستأتي من ناخبي حزب العدالة والتنمية الذي تشير استطلاعات الرأي الحالية إلى احتمال حصوله-في غياب حزب المستقبل- على 38 بالمئة في أحسن الأحوال.
لذا يبدو داود أوغلو حتى الآن بعيدا عن كرسي السلطة إلا في أحد احتمالين، الأول هو تشكيل تحالف انتخابي مع المعارضة وخصوصا حزب الجيد القومي المعارض بزعامة السيدة ميرال أكشنار – الملقبة بالمرأة الحديدية- وكذلك الحزب الجديد الذي يسعى وزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان لتشكيله بدعم من الرئيس السابق عبدالله غل، والذي من المنتظر أن ينطلق بداية العام المقبل.
وحتى في هذا السيناريو فإن داود أوغلو لن يكون المرشح الأقوى لرئاسة الوزراء -في حال تغيير النظام- إذ أن عبدالله غل لا يثق فيه لأسباب شخصية قديمة لا مجال لشرحها هنا، ولأن استطلاعات الرأي ترجح أن يحصد حزب علي باباجان نسبة أكبر من الأصوات من تلك التي قد يجمعها حزب داود أوغلو، إلا في حال حصول مصالحة مستقبلية واتفاق على تقاسم المناصب والأدوار بأن يكون منصب الرئاسة من حصة حزب علي باباجان، ورئاسة الوزراء من حصة حزب داود أوغلو.
أما السيناريو الثاني، وهو ما يعيدنا إلى التحليل السياسي أعلاه، وهو أن يلجأ أردوغان مضطرا للتحالف مع داود أوغلو كخيار أخير لإنهاء حقبة الأردوغانية بهدوء ضمن صفقة سياسية، تعيد لتركيا جزء من ديمقراطيتها على يد داود أوغلو، وتحفظ لأردوغان سمعته وتحول دون النبش في ملفات وأسرار الدولة التي لا يريد أردوغان لها أن تظهر للعلن. لكن هذا السيناريو الثاني ليس مضمونا أيضا، لأن لا دليل حتى الآن على أن مثل هذا التحالف قد يؤمن للطرفين الأغلبية الكافية للانفراد بالسلطة.
لكن في حال أراد داود أوغلو أن يشق طريقه بعيدا عن هذه السيناريوهات، وأقنعه طموحه بأن بإمكانه أن يحول حزبه إلى قطب سياسي قوي وذو ثقل شعبي يفوق منافسيه على الساحة، فإنه قد يشكل فرصة مهمة للسياسة في تركيا لتستعيد ولو جزء من حريتها وديمقراطيتها، وكسر حاجز الخوف المسيطر على أجواء السياسة ودفع المزيد من أعضاء حزب العدالة والتنمية لتغيير صفهم أو على الأقل المجاهرة بانتقاداتهم للسياسات الحالية.
لكن قبل ذلك، فإن كثيرا من المراقبين يرون أن على داود أوغلو أن يقدم فاتورة حساب للشعب التركي عن الفترة التي كان فيها شريكا مهما في صناعة القرار في تركيا، وخصوصا الفترة التي تولى خلالها رئاسة الوزراء، فالرجل يعترف بأنه أخطأ في عدة مجالات، لكنه يرفض تحمل المسؤولية عن أخطائه تلك بحجة أن القرار النهائي حينها كان دائما للرئيس أردوغان.
ومن ذلك إدارته للملف السوري، والعلاقة مع تنظيم الإخوان. داود أوغلو أكد في برنامج حزبه الجديد أنه يدعم سياسة خارجية تقدم حل الخلافات بالطرق الدبلوماسية والابتعاد عن التصريحات العنترية النارية التي تسيء إلى سمعة الدبلوماسية التركية وتهدف فقط لكسب نقاط شعبوية في الداخل، وإخراج تركيا من عزلتها الدولية.
وشدد على علمانية الدولة وخطأ استخدام الدين في اللعبة السياسية، لكنه لم يكشف – ولعله يكشف لاحقا – إذا ما كان قد أجرى محاسبة داخلية بشأن سياساته السابقة وخصوصا فيما يتعلق بما يسمى مرحلة الربيع العربي ومشروع حكم تنظيم الإخوان للمنطقة.
ولعله يبدأ -إن أراد- هذا المسار بمراجعة قائمة من يتابعهم على منصة تويتر بشكل شخصي، فيستثني من هذه القائمة التي تشمل 14 حسابا فقط حساب تلك الشخصية التي أهداها الجنسية التركية في أوج استثماره في مشاريع الماضي، حتى نعرف مدى تطلعه فعلا "للمستقبل".