في ذكرى خسارة لبنان لجبران تويني، الأستاذ والصديق والمناصر الأول للصحفيين، والرجل الذي كان له الجرأة أن ينشر مقالاً لي حول فضائح فساد وزير سابق آنذاك، ورئيس وزراء لاحقا بعد صدور المقال بسنوات، أتذكر قسمه الذي أراد كل اللبنانيين أن يتبعون، وهو أن يكونوا موحدين في الدفاع عن لبنان.

خسرنا جبران يوم 12 ديسمبر 2005، وخسرنا معه شخصية إعلامية فذّة كانت تؤمن بلبنان كوطن لجميع أبنائه، وكانت تؤمن بإمكانية إصلاح هذا الشعب وصلاحه. كان، رحمه الله متفائلاً. ولو نجا من تفجير الغدر الذي حرمنا منه، لوقف اليوم ليُسمع الجميع، أتباع الأحزاب وأفراد الحراك من دون أي تفرقة، كلاماً متساوياً: توقفوا عن اغتيال الوطن وتخريبه وتقسيمه، وباشروا ببنائه من جديد.

لكن مدهش أمر هذا الشعب. يُحب وطنه ويتهكم عليه. يريد بناؤه لكن يبرر تدمير أملاكه العامة والخاصة. وفظيع أمر هذا الشعب الذي أينما حلّ ينخرط ويندمج في المجتمعات المضيفة، لكنه يأبى الانصهار داخل حدود الوطن.

ولكي لا يقول أحدهم إنّي أعشق جلد الذات، أودّ الإيضاح هنا أن الأمر يخضع لنسبية مُعيّنة أحب، كما غيري، أن أعممها بين وقت وآخر، ككل لبناني أعرفه: معظم اللبنانيين ضحايا أبديين لأنهم لا يُخطئون.

هذا يعني أن هناك نسبة قليلة لا تتصرف كضحية أبدية. وهذه القلّة هي التي تواجه مشكلة توعية هذا "المعظم" وهي التي تواجه مشكلة "محاولة التوفيق" بين جميع الأطراف. وهي القلّة التي تحلم بعودة لبنان إلى ما كان عليه، بلداً لجميع أبنائه دون تخوين، وبلداً يفخر بشعبه وليس العكس، لأن مشكلة لبنان تكمن في شعبه.

ينتخب اللبنانيون الفاسدين عقوداً بحجة أنه لا قدرة لهم على تغييرهم، ثم ينتحبون. يؤلهون زعماء الطوائف ثم ينددون بالطائفية.

غريب أمر هذا الشعب. معظم سياسييه علقات تمتص دماؤه وأتباعهم يُمارسون البلطجة بوجه من يعترض، وثواره يمارسون الإذلال بحق المواطن العادي باسم تحرير الشعب، بينما يُفسحون المجال لمواكب بعض السياسيين بالمرور.

إنّها دوامة شرسة وحلقة مفرغة تدور بين حب الحرية وحب الزعيم.

يحلمون بالعيش المشترك ثم يلتحمون في قتال عنيف لأتفه الأسباب. ثم يخرج من بين كل جماعة وطائفة وحزب، ودون أي استثناء، من يقول: لم نكن نحن، بل كانوا هُم.

نسيت أن أقول لكم: لا أحد يُخطئ في لبنان. اللوم دوماً على الآخرين.

حتى الأحزاب السياسية التي ساهمت في شرذمة هذا الشعب العظيم، هي لا تُخطئ.

كيف لها أن تُخطئ والله معها والشعب معها ومن يُعارضها فهو إما خائن، أو مرتهن للخارج أو عميل.

ولا أستثني أي حزب سياسي في هذا الموضوع، لأن ممارسة العمل الحزبي السياسي في لبنان يتطلب تبعية سياسية من المواطن للحزب ورئيسه، وهذا يعني دفاعا ولو عن الباطل في سبيل نُصرة سُمعة الحزب أو رئيسه.

مضحك أمر هذا الشعب الذي تُبرر فيه كل فئة لنفسها ما تتهم به غيرها، بينما عدسات الكاميرا والأرشيف والذاكرة تنبض بأخطائهم المتناقلة، المتكررة والمتوارثة والمستنسخة.

شعب كان يتغنى بكتّابه وأدبائه لعقود طويلة لدرجة أنه توقف تدريجيا عن القراءة والكتابة والطباعة، لأنه اعتقد أن أدباءه يُغنونه عن التعبير… حتى باتت الثقافة شبه غائبة عن وطن جبران خليل جبران، ومارون عبّود، وتوفيق يوسف عوّاد، وخليل مطران، وميخائيل نعيمة، ومي زيادة، وسعيد عقل…

شعب يُحب وطنه بالاسم لكنه إجمالاً يفضل المنتج الأجنبي على الصناعة المحلية.

لا يتعامل بعملته الوطنية إلا إذا كان مجبرا.

 يؤمن بأنه لا حيلة له ولا قوة لأن دول العالم تُسيطر على قراره، بينما يستمر في تأييد الأحزاب التي تتبع الشرق والغرب في قراراتها.

إنه الشعب الذي يعشق لعب دور الضحية الأبدية.

وإلى هذا الشعب أتوجه اليوم بكلمات قد تصله وقد يتغاضى عنها: أحبوا لبنان كوطن وليس كملكية. أحبوا عمّاله وحرفييه وصناعاته ومنتجاته وعملته وثقافته ودافعوا عن تنوعه وتفرّده. أحبوا بيئته وحافظوا عليها. أحبوا بعضكم البعض لأنه متى ما انتهى العالم الخارجي من استخدامكم كبيادق في لعبته، فلن يبقى لكم كشعب، سوى بعضكم البعض.

فإما أن تقتتلوا لتفنوا بعضكم حتى آخر نفس دفاعا عمّن يُقَسِّم وطنكم، وإما أن تتحدوا للدفاع عن الوطن وعن بعضكم البعض.