الفُرجة هي أكثر ما يستهوينا، كأننا نأبى إلا أن نبرهن على صواب حكيم الجامعة في وصيّته عن العين التي لا تشبع من النظر، فلا نكتفي بتسخير حواسنا للرؤية، ولكننا ننصّب مساحاتنا كلها قرون استشعار، كي تتمكن من استيعاب فحوى المشهد.
فأول ما نحتكم إلى ساحته، لإطفاء نار الفضول فينا، هو: النظر. لأنه في يقيننا هو الحجة الجديرة بأن نستجير بها في الفصل بين حقيقةٍ نهفو لأن تتحول واقعاً، وواقعٍ نخشى ان ينقلب وهماً، لأننا جربنا مراراً كيف تخيب ظنوننا في ما ظنناه حقيقة، لأن الرؤية كتجربة حسية هي ما لا نستطيع ان نعوّل عليه، بخلاف الرؤيا التي نُناصبها العداء، ولكنها لا تخذلنا رغم إنكارنا لها، فلا نملك إلا أن نتأمل وصية القديس: "نحن غير معنيين بما يُرى، ولكن بما لا يُرى، لأن ما يُرى وقتيّ، أما ما لا يُرى فأبديّ".
ولكن الواقع أننا لم نكن من مريدي الأبديّ يوماً، لأننا في سيرتنا اليومية لم نؤمن بمعبودٍ كما آمنا بما يُرى معبوداً، فالفرجة كانت فردوسنا البديل للفردوس منذ وجدنا أنفسنا نسرح خارج الفردوس، لأنها من حيث المبدأ قبولٌ بالإغتراب عن الأبديّ، بممارسة الواقع الأرضي، وديانة الواقع الأرضي ليست التجلي، ولكنها تغدو منذ الآن: اللهو. نقول اللهو لكي لا نقول التيه. لأن التائه أيضاً سيفقد صوابه بغياب أحجية الوجود الملقّبة باسم: اللهو.
ولهذا السبب يحثّنا إمام الحكمة أن نمارس اللهو، لأننا لم نكن لنحتمل المغامرة فيما إذا غاب من رحابها اللهو. هذه المتعة التي وهبها لنا اللهو هي ما يدعونا لأن نحترف الفرجة لنضعها في منزلة أعلى شأناً من حاجة ماسة اخرى، كما هو الحال، مع السمع. فنحن مهووسون بما نرى، لدرجة أننا لا نريد أن نعيش فيما إذا خُيّرنا بين أن نعيش الدهر بلا بصر، وبين أن نعيش شطراً هزيلاً منه متوجاً بهذه العدسة السحرية التي تتلصص على العالم، لنستعير بهذه اللصوصية، الهيمنة على العالم.
ولكن إدمان المشاهدة لم يكن ليبقى بلا حساب؛ لأن احتراف الرؤية ما لبث أن نقل المُريد من خانة المشاهد، أي من موقع الفاعل، ليجد نفسه، بمرور الوقت، بطل المسرحية التي يقوم فيها بدور المفعول به، ليتحول موضوع المشاهدة.
حدث الإنقلاب لا بسبب الرغبة في أن يكون المريد شريكاً في اللعب، ولكن لكي ينتزع مزايا البطل، أي، لكي يهتدي إلى ما نسميه بلغتنا اليوم رسالةً، توقاً لأن يهب وجوده المعنى الضائع الذي ذاق مرارة غيابه طوال وجوده على مقعد الفُرجة، خارج الخشبة التي تعجّ بمحفل الهواة. فعندما يعجزنا الواقع الحرفي في تحقيق الحلم، لا نجد مفراً من إنكار أنفسنا في هزيمتنا، علّ الإستعراض يعيننا في الكشف عن مواهبنا الخفية. أي نقبل بقدر الموضوع، بعد أن كنا المبدع المنذور لرسم خارطة الموضوع، مستعيرين بذلك دور الغانية التي تخذلها مواهبها في الإستعراض، فلا تستحي أن تكشف عن مفاتنها كحيلة أخيرة في سيرة الإغواء. فنحن مهرّجون بالفطرة. مهرّجون منذ اليوم المشئوم الذي تنكّرنا فيه لارتياد الآفاق بالتجلّي، فقبلنا بالرؤية، ملاذاً للرؤيا.
هذه الصفقة الفجيعة استزرعت فينا وباء الشغف بالفُرجة. فرجة استهوتنا لدرجة تحوّلت في حياتنا ذلك الجلاد الذي لم يعد يقنع ببقائنا في مقعد الفرجة، ولكنه استدرجنا إلى الشَّرَك، إلى الخشبة، لكي ننضم إلى محفل التهريج؛ فلا نعود نستمتع بدور المتفرّج على اللعبة، ولكننا نغدو البهلوان الذي يمارس المهزلة، مستعيراً دور الغانية التي تستدرج بمفاتنها، لا بمواهبها، حتى إذا انتبهنا من غفلتنا يوماً، وفوجئنا بوجود ذلك الإنسان الآخر، الذي شقّ عصا الطاعة على العادة، وارتضى العزلة قدراً، فأشاح بوجهه عن لهونا، ميمّماً صوب البعد المفقود، حيث تسكن الحقيقة، مشفوعةً بوهج غربتها، لتفيض ببلسمها، في سيماء مريدها، الخاشع في حرمها، ساعتها تتنزّل فينا الزلزلة، فلا يشتري حتى الحداد خسارتنا! لنكتشف، بعد فوات الأوان، أن الموت هو القصاص الوحيد القادر على غسل بصمة الدنس!.
فاحتراف الحضور في موقع المشاهد هو ما يدفعنا للغرق في بحر المشهود، فيتماهى الفاعل بالمفعول؛ لنتبادل معه الأدوار، ولا نكتفي بأن نعرّي، في هذه الحمّى، جسداً، على طريقة الغانية اللعوب، ولكننا نقترف خطيئةً أرذل، عندما نعرّي روحاً: فتعرية الروح هي الخطيئة التي لا تُغتفر في ناموس المعبود.