قد يبدو للقارئ أن عنوان المقال منسوخ من عنوان الفيلم الأميركي الشهير Back to the Future حيث يمضي البطل وقته في التنقل عبر الزمن بين الحاضر والماضي وعودة للمستقبل الذي هو الحاضر.

أؤكد لكم أن الاستعارة الأدبية مقصودة مئة في المئة، وتنطبق على دولتين سأتناولهما في مقالي هذا: السعودية ولبنان.

أما السبب الأول لاستخدام هذا العنوان، فهو زيارتي للرياض هذا الأسبوع لحضور أول منتدى إعلامي سعودي، بعد نحو 3 سنوات من آخر زيارة لي للمملكة، والرياض تحديداً.

سأبدأ من آخر مشهد طُبِعَ في ذاكرتي من آخر يوم لي خلال فعاليات المنتدى، وكان يوم الثلاثاء 3 ديسمبر، حيث تم أخذ المتحدثين والمشاركين إلى منطقة البوليفارد في عشاء وداعي.

وكأنني أجلس في منطقة المارينا بدبي خلال العطلات، أو في إحدى مقاهي الروشة في بيروت أيام عزّها.

المكان مزدحم بالمارة والمتنزهين رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، وأصوات موسيقى غربية وعربية تصدح في الخلفية، وحيث يجلس فنان كاريكاتير يرسم أحد المارة.

وكأنني في رياض غير الرياض التي زرتها قبل 3 أعوام، وهي بالتأكيد غير الرياض من 10 سنوات.

نوافير راقصة عن اليمين، أكشاك بيع مأكولات سريعة على الجانبين ومقاهي ومطاعم منتشرة وكلها مليئة بالناس، لدرجة أننا اضطررنا إلى تقسيم أنفسنا لمجموعتين في مطعمين ملاصقين أحدهما يقدم المطبخ السعودي والآخر لبناني.

ولست بوارد الشكوى هنا، اللهم لا اعتراض، إذ جاءت قسمتي في مطعم لبناني، وأنا لبنانية، وأكلنا طيب دوماً، وآخر مرة تذوقت فيها الأكل اللبناني كان أول الأسبوع عندما تركت لبنان متوجهة للمملكة. لكنني أردت تجربة أطباق سعودية محلية، وسأفعل ذلك بالتأكيد خلال زيارتي القادمة.

هذه المدينة العاصمة شهدت وتشهد نقلة نوعية، وأتكلم هنا عن مشاهدتي الشخصية لأني كنت ولا أزال ممن ينتقدون في العلن لكي يسمع المسؤولون، وكنت وما أزال ممن يتكلمون في العلن أيضاً عن الأمور الجيدة التي تحصل لكي يعرف العالم عنها.

في المرة الماضية أُصِبتُ بدهشة إيجابية عند رؤيتي لشابات وشباب سعوديين، متعلمين، مثقفين، يجيدون التحدث بعدة لغات ويستقبلون وفودا من اليابان والصين وفرنسا وغيرها ويتحدثون إليهم ويرشدونهم.

كان ذلك خلال مؤتمر مسك، على هامش زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للرياض كأولى محطاته في الخارج. وقتها كتبت عن الموضوع وأنني اتفاءل خيراً بمصير البلد لأن دولة فيها شباب متعلم، ويقودها من يؤمن بالعلم، ستتقدم دوما نحو المستقبل بخطى سريعة وواثقة.

وهذا ما لمسته مؤخرا: شعب متعطش للمزيد، للتعلم، للتطور أكثر فأكثر، وللمنافسة والانفتاح على العالم، ولتعريف العالم بعراقة هذا الشعب وتاريخه وما يستطيع أن يُساهم فيه.

أربعون عاماً من الصحوة لم تصمد في وجه إرادة التغيير، وخير دليل هو نجاح منتدى الإعلام السعودي الذي شهد حضور آلاف الزملاء من دول عربية وعالمية لمناقشة تحديات القطاع الإعلامي. ومشاركة الخبرات والتجارب.

بحر من المتخصصين والمتمرنين تلاقوا وتناقشوا واستمعوا واستفادوا في بحر يومين، في مكان واحد. ومن ضمن من رأيت مراهقين لا تتجاوز أعمارهم 14 عاما لكنهم متخصصون في مجالات التغطية الصحفية وحتى التصوير كمتعب الحضيف، وحكومتهم تدعمهم وتستضيفهم في مؤتمرات تدخل ضمن شغفهم وتخصصهم.

كل من سألته كان يريد معرفة المزيد. وأتوقع أن هذا المنتدى الاستراتيجي سيُكتب له مزيد من النجاحات والنمو في السنوات القادمة.

جلست  في المطعم إلى جانب صحفيين: ثلاثة فرنسيين، وأربعة عمانيين، وسعوديتان وإماراتية. وبحكم أنني لبنانية وأعرف الزميلات والزملاء الخليجيين الذين بجانبي، ”تحرّشت“ بالفرنسيين أولاً.

تبين لي أنهم مهتمون بتصوير سلسلة فيديوهات إعلامية داخل المملكة وهم يعتبرون انفتاح السعودية على العالم فرصة تاريخية، ويرون في منتدى الإعلام السعودي فرصة للتواصل مع صحفيين مثلهم ومع المسؤولين الذين يستطيعون توجيههم نحو الطريق الصحيح للاستحصال على التراخيص اللازمة.

المملكة كانت مُغلقة بوجه الإعلام والسياحة والعالم كالآخرين. كانت أرضاً سحرية تُثير حشرية الصحفيين بسبب الكم الهائل من الشائعات التي لم يتمكنوا من التحقق من صحتها، وبسبب الكم الكبير من الأحداث والتصرفات التي لم تواكب تطور العصور بسبب ما فرضته الصحوة في وقت مضى، عِلماً أن لا علاقة لها بالدين أو العادات الاجتماعية الاساسية.

هذا الغموض السحري هو ما تُراهن عليه السعودية لجذب السياح والمستثمرين في نفس الوقت، وقد صحت توقعاتها، إذ أن عدد طلبات الفيزا السياحية تجاوز 120 ألفاً خلال شهر من فتح الفرصة للتقديم.

شاهدت هذه النقلة النوعية بنفسي وكنت في المرتين أفكر بوطني لبنان وأفكر بكلمات أربع: ومن الحب ما قتل.

أرى لبنان يتراجع بسرعة الضوء فيما تتقدم الرياض للأمام بسرعة الضوء لا لتلحق ببقية العالم الذي سبقها، بل لتتجاوزه أيضاً وخلال فترة بسيطة إذا ما استمرت على هذا المنوال.

عدت إلى وطني لأجد شللا اقتصاديا في بعض الأماكن، ومقاهي فارغة، وحالة من الذهول والإحباط تلف المكان. رأيت في أول 3 ساعات لي خلال تنقلي مع الوالد بين بيروت وجونية اعتصامات هزيلة في ساحات بعيدة نسبيا عن أماكن سكن المتنفذين، وحيث الشعب يخنق الشعب، ويتداول كمية شائعات وتحريضات مهولة.

شاهدت لاحقاً أطفالا يهتفون بشتائم لا يفهمون معناها بل يسمعون ويرددون. وشاهدت شباناً وشابات يبررون قطع الطرقات على المواطنين بدلا من المتنفذين، والمحصلة: الشعب يختنق والمتنفذون يتنفسون الصعداء.

استبدل جزء من الشعب ”المواكب، و دمعة وابتسامة، وقميص الصوف، والرغيف“ بكلمات نابية، وهتافات تُعبّر عن تدني في مستوى الأخلاق، ويبررون ذلك بقولهم: من حقنا أن نشتم السلطة.

هذا الوطن الذي خرّج أبرع الأدباء والعلماء والصحفيين والدبلوماسيين، بات اليوم يُعاني من فقر الدم بسبب ما امتصه سياسيون فاسدون على مر العقود الماضية من خزينته ومن جيوب شعبه.

وسأقول إن الأمر حدث برضى الشعب على مدى عقود، لأن استمرار انتخاب هذه الزمرة الحاكمة منذ 30 عاما يجعل من الشعب متواطئاً لا ضحية.

والشعب قام بذلك منطلق نفاقه الفكري الذي يبرر منطق الحفاظ على ”الوجود“ كونه يفكر أنه لن يحفظه سوى حزب الطائفة التي يتبع لها كل قسم من هذا الشعب.

هذا الحراك يعرف أنه يخنق البلد أيضاً، ولا يُبالي.

طالعتني يافطة رفعها أحدهم بيديه عند تقاطع برج الغزال القريب من ساحة الشهداء حول الانتحار.

يستخدم أصحاب الحراك، أو ”الثوار“ كما يحلو للبعض تسميتهم، فكرة التهويل أن انتحار الشابين كان بسبب الظروف المعيشية التي سببتها السلطة الحالية، ويتناسون أنهم هم أيضاً سببا في البلاء الاقتصادي الذي يشهده البلد.

والد أحد الضحيتين وضع اللوم على الحراك المستمر منذ قرابة شهرين، في مصرع ابنه.

شعبي، على ما يبدو، بات يُفضل تصديق الكذبة والدفاع عنها بدلا من سماع الحقيقة.

الحقيقة تفيد أن معدلات الانتحار في لبنان متدنية جدا لدرجة أنه في المراتب الأخيرة عالميا بالنسبة لعدد ضحايا الانتحار. بينما الحراك والأحزاب التي تغلغلت فيه تُصرّ على أن العهد الحالي هو سبب انتحار الشابين، وليس لأنهما قد كانا يعانيان من أمراض نفسية كاكتئاب أو ما شابه، وليس لأن العهود السابقة كلها أوصلت البلد إلى حالة يأس مرير!

ميليشيات الحرب استمرت بالحكم ولم تُبدّل سوى بذلتها العسكرية ببذلة مدنية لتستمر في الحكم. وكذلك الشعب. لم يستبدل تفكيره بالتبعية، إنما استبدل أسلوب التبرير في استمراره بدعم زعيم فاسد للبقاء في السلطة أو الدفاع عن خرق القوانين.

لا شيء يمكن أن يُصلح الوضع سوى الاسراع بتشكيل حكومة مؤقتة تضع قانون انتخاب عادل وإجراء انتخابات نيابية سريعة، مع ضرورة إعادة تفعيل خدمة العلم التي توقفت منذ 12 عاما. أما شباب هذا الوطن وشاباته، فقد أمسوا بحاجة لتربية وطنية بعيدا عن التأثيرات الحزبية التي أنبتت فيهم قلة أخلاق نقلتها عدسات الكاميرات على طبيعتها.

هم لا يعرفون حب وطنهم سوى من منطلق تقليد أعمال الشغب في الغرب، والتي جابهتها السلطات الغربية وقتها بالرصاص المطاطي والضرب والاعتقالات. لكن في لبنان، يريدون الشغب ويبررون تجاوز القوانين، ولا يريدون العقوبة.