أخيرا اضطر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي إلى الاستقالة بعد اندلاع احتجاجات شعبية واسعة ضد حكومته في مدن العراق المختلفة دامت شهرين، قتل فيها المئات وجرح الآلاف برصاص أنصار السلطة وبأوامر واضحة وتخطيط مسبق، على ما يبدو، من القيادة السياسية العليا منذ اليوم الأول للاحتجاجات، على رغم نفي الإعلام الرسمي ذلك وادعائه بأن "جهةً ثالثة" هي المسؤولة عن قتل المتظاهرين!
لم يستجِب عبد المهدي لنداءات وصرخات الشعب العراقي ومئات المثقفين والكتاب والمحللين والأكاديميين ورجال الدين الذين طالبوه بالاستقالة منذ مطلع شهر أكتوبر الماضي، بعد سقوط المجموعة الأولى من الشهداء برصاص الحكومة وأتباعها ومليشياتها، بل التصق بالكرسي وكأنه حقه الذي ورثه عن الأجداد.
لم يستجب للمناشدات الدولية ونداءات منظمات حقوق الإنسان العالمية بإيقاف إطلاق الرصاص الحي على المحتجين، بل بقيت أجهزته تقتل الناس الأبرياء دون حرج، وآخر مجزرة ارتكبتها قواته وقعت في الناصرية قبل بضعة أيام وراح ضحيتها العشرات. لكنه، وكما كان متوقعا، اضطر أخيرا إلى تقديم استقالته، بعد ساعات من مطالبة المرجع الشيعي علي السيستاني البرلمان بـ"إعادة النظر في خياراته"، والتي فهمها الجميع بأنها تعني إقالة الحكومة.
والغريب أنه قدم استقالته إلى البرلمان، وليس إلى رئيس الجمهورية كما جرت الأعراف المتبعة، فالرئيس هو الذي كلَّفَه بتشكيل الحكومة، ومن المنطقي أن تقدم الاستقالة له. كما إن النظام الداخلي لمجلس الوزراء ينص صراحة في (المادة 18) على أن يقدم رئيس مجلس الوزراء استقالته إلى رئيس الجمهورية. إنها مخالفة قانونية وأخلاقية مقصودة وازدراء غير مبرر لمنصب رئيس الجمهورية ربما لأن شاغله الحالي وقف (رسميا) مع المحتجين وعارض إطلاق الرصاص الحي عليهم. وقد وقع البرلمان في هذا الفخ فصوت بالإجماع موافقا على استقالة عبد المهدي بدلا من أن يرسلها إلى رئيس الجمهورية.
لقد استجاب عبد المهدي فورا لنداء المرجع الديني علي السيستاني لأنه يعلم مدى السلطة المعنوية التي يتمتع بها، دون أن يمتلك جيشا يخيف به الخصوم أو مالا يوزعه على الأتباع، فقوته مستمدة من موقعه الديني ومواقفه التي تنسجم مع المصلحة العامة وإرادة الناس، وهذا هو الموقف المتوقع من رجال الدين الحقيقيين. لم يكن السيد السيستاني راغبا في التدخل في الشأن السياسي، وهذا هو نهج المرجعية الشيعية في النجف منذ تأسيسها قبل ألف عام، فالسياسة سياسة والدين دين بالنسبة لها، وكما قال المفكر الإسلامي اللبناني الراحل هاني فحص "إنْ تدخلت السياسة في الدين فإنها تفسده بقدر تدخلها فيه، وإن تدخل الدين في السياسة فإنه يفسدها بقدر تدخله فيها".
لكن الأحزاب السياسية العراقية المتشدقة بالدين اضطرت المرجع الأعلى مرارا إلى التدخل بسبب فسادها الممنهج وفشلها المتواصل في إدارة الدولة وعجزها عن تقديم الخدمات الضرورية للمجتمع، والأهم من كل ذلك، هو أنها تلهج بذكره وتدعي السير على نهجه. لقد تدخل السيد السيستاني بالسياسة لأن الأحزاب السياسية استمرت في ادعائها بأنها تتصرف وفق إرشاداته، بينما الحقيقة هي أنها بعيدة كل البعد عن الدين والورع والتقوى، بل وبعيدة حتى عن السياسة التي لا تفقه فيها شيئا. لقد رفض السيستاني منذ عام 2010 على الأقل أن يستقبل أي سياسي عراقي في رسالة واضحة بأن على السياسيين وحدهم أن يتحملوا مسؤولية إدارة شوؤن الدولة حسب ما تقتضيه المصلحة العامة وتقرره إرادة الشعب، فهذا هو شأن السياسيين، أما المرجع فسيتفرغ لمهامه الأخلاقية والدينية والمعنوية.
المطلوب عمله الآن، بعد أن قدم عبد المهدي استقالته، هو تكليف شخصية وطنية كفوءة غير منتمية لأي حزب سياسي بتشكيل حكومة انتقالية من الخبراء المشهود لهم بالخبرة والنزاهة والاستقلالية، تستمر لمدة لا تتجاوز إكمال فترة الحكومة المنصرفة، تقوم خلالها بتسيير شوؤن البلاد وتعديل القوانين ورعاية قيام مؤسسات ديمقراطية حقيقية، بما في ذلك تأسيس أحزاب جديدة تقوم على أسس سياسية واقتصادية وطنية، وليست دينية أو عرقية أو مناطقية أو طائفية، ونقابات ومنظمات مجتمع مدني مستقلة وفاعلة.
ليس صحيحا أن تجرى الانتخابات خلال فترة قصيرة، فالاستعجال ليس في مصلحة الدولة وإن الذي قادنا إلى الوضع الحالي المزري هو الاستعجال في إجراء الانتخابات عام 2005 قبل إقامة المؤسسات الديمقراطية المطلوبة واللازمة لإنجاح التجربة الديمقراطية. يجب أن تكون هناك وسائل إعلام مستقلة تنشر المعلومات بحرية وحيادية، وأحزاب سياسية ديمقراطية غير مرتبطة بالأحزاب الحالية التي قامت واستفحلت على الفساد والطائفية والمناطقية. الديمقراطية الحزبية تعني إجراء انتخابات دورية للقيادة ومناقشة البرامج السياسية والانتخابية وعقد مؤتمرات سنوية علنية للأعضاء يناقشون فيها الوضع العام وخططهم للمستقبل.
كما يجب أن تكون هناك منظمات مجتمع مدني تسند المجتمع وتملأ الفراغات التي تتركها مؤسسات الدولة، ونقابات مستقلة وديمقراطية كي تمثل العمال والموظفين وذوي المهن المختلفة. هذه المؤسسات هي جزء أساسي من المجتمع الحديث ولا يمكن أيَّ تجربة أن تنجح دونها. كما يجب أن يكون الاقتصاد الوطني مختلطا، لا رأسماليا خالصا، ولا اشتراكيا خالصا، وهذا يعني أن تكون هناك مؤسسات وطنية لرعاية المسنين والمرضى والعاطلين عن العمل والأطفال والأمهات، فالدولة العصرية ترعى كل محتاج حتى يتمكن من رعاية نفسه.
الحكومة الانتقالية المقبلة يجب أن تشرف على إصلاح النظام كليا وتعديل القوانين وإلغاء القوانين المجحفة والتمييزية كقانون السجناء السياسيين الذي يجيز تسلم راتبين من الدولة وقانون معارضي رفحاء الذي ميزهم عن باقي العراقيين، وسن قوانين جديدة مطلوبة وإرساء دعائم المؤسسات الديمقراطية كي تترسخ قبل إجراء الانتخابات كي تكون جاهزة. كما يجب إلغاء قانون المساءلة والعدالة الذي أسيء استخدامه وظل سيفا مسلطا على الناس الذين عملوا في أجهزة الدولة أيام النظام السابق أو انتموا لحزب البعث. هؤلاء مواطنون عراقيون ويجب أن يتمتعوا بالحقوق المتاحة للآخرين دون أدنى انتقاص. الدولة الحديثة لا تستثني شريحة من مواطنيها مهما كان رأي الغالبية بها لأن الاستقرار والسلم الاجتماعي يتطلب العدالة والمساواة. التمييز يخلق حزازيات وأحقاد تصعب إزالتها لفترات طويلة مقبلة.
كما يجب أن تشكل هيئة قضائية للنظر في الجرائم التي ارتكبها المسؤولون السابقون أو نتجت عن إهمالهم أو تقصيرهم، تبدأ بالتحقيق في جرائم قتل متظاهري انتفاضة تشرين، ولا تنتهي بجريمة قتل 1700 متدرب في معسكر (سبايكر) عام 2014. هذه المسألة في غاية الأهمية لأنها تشعِر المواطنين جميعا بأن العدالة تأخذ مجراها وأن لا تمييز بين الناس، فمرتكب الجريمة يعاقب وإن كان وزيرا أو رئيسا للوزراء، وهذا من شأنه أن يدفع الناس لأن تحترم القانون وتثق بمؤسسات الدولة.
إن حاولت الأحزاب الحالية الممثلة في البرلمان التسويف والتأجيل والالتفاف على مطالب المتظاهرين وإطالة عمر هذه الحكومة المنبوذة، فمن شأن ذلك أن يشجع الناس على التصرف خارج الدستور والقانون، وهذا ليس في مصلحة أحد، خصوصا المسؤولين الحاليين لأنهم سيكونون هدفا للمتظاهرين الغاضبين. يجب أن تُحل كل المليشيات وتجرَّد من سلاحها، فلا يمكن إقامة دولة متماسكة بوجود مسلحين يتصرفون حسب أهوائهم ومزاجهم ومصالح قادتهم كما تفعل المليشيات المرتبطة بإيران حاليا. يجب التحقيق في اغتيال الناشطين والمثقفين واختطافهم والتجاوز عليهم، خصوصا النساء منهم. هذه أعمال شائنة ومن المعيب أن تمر دون تحقيق وعقاب.
العراق المقبل يجب أن يكون لكل العراقيين، بغض النظر عن القومية والدين والمذهب والمنطقة والتوجه السياسي. ليس في مصلحة أحد، حتى الطبقة السياسية الحالية، أن يعرقل الإصلاحات المطلوبة. لقد أدرك الشعب العراقي، خصوصا جيل الشباب الذي برهن للقاصي والداني أنه واع ووطني وغير مرتبط بأي جهة خارجية، حقائق الأمور، ولن تنطلي عليه أي لعبة مستقبلا، وقد آن الأوان أن يدرك السياسيون الحاليون هذه الحقيقة. أي محاولة للتسويف والالتفاف على مطالب الناس المشروعة سوف تقود إلى عنف، والعنف لن يسلم منه أحد. إن كانت الجماعات السياسية الحالية وميليشياتها المسلحة المدعومة من إيران، تتصور بأن لها اليد العليا حاليا، فعليها أن تعلم بأن حمل السلاح ليس حكرا عليها، وأن الشعب الغاضب قد يلجأ إلى حمل السلاح لمحاربتها وإن فعل فسوف ينتصر عليها دون أدنى شك. لذلك، يجب التحلي بالحكمة والاعتراف بأن الأمور قد تغيرت كليا وجذريا الآن، ففترة ما بعد انتفاضة تشرين 2019 لا تشبه أي فترة سابقة.