ربما كان هنالك نمط للانهيار الذي يصيب السلع الاستراتيجية في كل حقبة متأزمة. إذ تضافرت ذات يوم ظروف التكالب والجشع لدى تجار اللؤلؤ وربابنة سفن الغوص الموسمي في دول مجلس التعاون، لتلتقي مع الظلم الاجتماعي والمادي الذي أصاب الطبقة الكادحة، مع أتاوات "الحماية البريطانية" المفروضة على حكومات المنطقة، والحاجة العالمية الملحّة لهذه السلعة.
وقد دفعت السنن الكونية للسوق بالإبداع العلمي الذي قد يكون مؤيدا بعقوبة إلهية أصابت الإقطاع الساحلي في منطقتنا، لينجح عالم أحياء بحرية في اليابان في استزراع محار اللؤلؤ في أحواض مخبرية، والتسبب في اندثار اقتصاد الغوص على اللؤلؤ إلى غير رجعة، وتزامن الكساد الإقليمي آنذاك مع الكساد الأعظم عام 1929.
كذلك تعددت مثبطات التنقيب عن الماس في أفريقيا، حيث الحروب الأهلية والعرقية المستدامة، والمتقاطعة مساحاتها وميادينها مع مواقع مناجم الماس، ودور الماس المتنازع عليه استخراجا وتهريبا في تمويل اقتصاد الظل وحكومات المليشيات والتطهير العرقي. فقد أوردت جمعيات الإغاثة الدولية في تقاريرها الميدانية، إبان احتدام الاضطرابات في مناطق أفريقية شاسعة طوال تسعينات القرن الماضي، بعد أن نما إلى علمها من روايات الناجين من المجازر الجماعية ما كان لتجارة الماس غير المشروعة من دور في تأجيج وتمويل واستدامة القتال ودوران رحى الضحايا. هنا أسقط في يد كبار بيوتات الماس في دول الاستيراد، إذ كانت ردة الفعل الشعبية عارمة من قبيل الاشمئزاز من "ماسات الدم" والعزوف عن اقتناء الماس مجهول المصدر أو غير المبرأ بضمانات من التداول المشبوه. اليوم، ومع نمو جيل مواليد الألفية، نمت قناعة لديهم بأن هذا الحجر الكريم لا يستحق عناء اقتنائه، خاصةً مع تهاوي قيمته فور شرائه، مما اضطر عملاق الماس (دي بيرز) لتخصيص أكبر مختبر للماس الصناعي (الكربون المضغوط مخبريا) لعل سعره الزهيد وبراءة الذمم حياله يطيلان أمد الربحية وإن تضاءل هامشها.
نصل إلى الثروة الأكثر تلطخاً بالدماء في الربع قرن الأخير: الغاز المسال القطري. هو سلعة تحمل كل مقومات النهضة لكن طفرته رافقها طموحٌ سياسي كأجمح ما يكون. مداخيله المهولة أساساً للدولة المصدرة الكبرى له تصبح فلكية إذا ما تم احتساب قلة عدد السكان، ويصبح الأب الحنون والسخي على عياله رمز رحمة وازدهار في أعينهم، فلا يصدقون فيه شواهد امتهانه للاغتيالات وتمويل محاولاتها ضمن كبار رؤوس عصابة حراك الجغرافيا السياسية. فالتناقض صارخ بين الرواتب الخيالية وامتيازات المواطنة في الدوحة وضواحيها، وما مولته ذات الميزانية من مآلات الدول: سوريا شبه مطموسة وليبيا مشتعلة ويمن مضطرب وعراق يغلي وتونس مضمدة، مع كوكبة من الدول التي شهدت وتشهد تجارب إعلامية وميدانية لزعزعة كياناتها برعاية الأمير الوالد جهاراً أو من وراء الإبن، بينما يتم تسويق مبدأ في الداخل مفاده نصرة المظلومين في كل مكان من قبل المحسودين على النعمة.
مؤخراً أوردت الأخبار نبأ نجاح الاستثمار الياباني في غاز المياه الإقليمية الأسترالية، والذي ناهز عشرات المليارات، ويشمل حق أفضلية الاستفادة مقابل شراكة التطوير، فكسبت اليابان مورداً أقرب جغرافياً وأسهل لوجستياً شريكتها فيه دولة من تكتل (الأعين الخمس) الاستخباراتي (يضم أمريكا وبريطانيا وكندا ونيوزيلندا وأستراليا)، وهو ما قد يستخدم لاحقاً كضمانة لإعادة ترسيم الجغرافيا الاقتصادية بمقايضة سياسية مع الصين، شهدنا في الخليج وجهاً سيئاً لمثلها مع إيران إبان صعود نجم النفط الصخري المشوب بتطلعات أوباما.
بدورها ضحت الصين بشراكة الطاقة مع إيران، ربما لتتجنب استثارة الغرب أكثر، ولتكسب ذوي الثقل الاقتصادي الأكبر في مجلس التعاون الخليجي، وفور خروج المال الصيني أعلنت إيران وقف العمل على تطوير حقل فارس للغاز الطبيعي، المشترك مع قطر. يحدث هذا في خضم استنفار قطري للمساهمة في استكشاف وتسويق إنتاج مكامن الغاز أينما وجد وسمحت بالمقايضة الحصصية فيه شركات غربية كبرى تعمل أساساً في قطر، نظراً لاقتراب موعد انتهاء مجموعة من عقود البيع المطولة بحلول عام 2024، ولا يلوح بعد من سيشتري غاز قطر تفضيلياً بعد دورة التصدير الأخيرة، مع احتدام المنافسة الإقليمية من طرف مصر كمصدر، واحتمال انتقال مشترين تقليديين مثل اليابان إلى أستراليا، والصين إلى روسيا إن لم ترد أو تستطع الشراء من آخرين عن بعد، كما أن الولايات المتحدة قد انضمت أيضاً إلى كبار مصدري الغاز وقبله النفط.
لا يبدو أن المقاطعة الرباعية في ظل هذه التطورات، ومصاريف كأس العالم، ومشتريات السلاح والذمم المكلفة، والقضايا التي ستنتظر قطر في محكمة الجنايات الدولية من ضحايا تجاربها التحريضية على البشر ستعود بخير عليها، وقد فقد موردها الأهم قيمته الأولى، فهل نشهد انكفاء غاز الدم المسال على غرار لؤلؤ الغرقى وماسات الحروب؟