ربما يكون الزعيم الراحل معمر القذافي، بتسطيحه لمفهوم إدارة الشعب ومقدراته بواسطة الزعامة الشعبية، وتنظيره لعموم الليبيين بأن فردهم أمين على الزعامة أمانة الجماعة، قد ألغى المنهجية المؤسسية ومفهوم تراتبية السلطة وتوزيع المهام من مفهوم الحكم لدى من ورث التركة من الحاشية والمعارضة، وهو مفهوم مدمر إذا ما اختلط بأطماع فراغ السلطة الموحدة المستمر إلى الآن في عامه الثامن.
يبدو أن صورة هذا التبسيط الظاهري لحيازة السلطة، منذ نجح فيها القذافي على ظهر دبابة قبل 5 عقود، كانت ماثلة في العقل الباطن الجمعي لقيادات الحاشية والمعارضة، قبائل وحركات، منذ أول يوم تولى فيه القذافي الزعامة، وتضاعف بريقها يوم قُتل. لن يصلح لليبيا أو لسواها نموذج سلطوي سابق أو مستورد، بل نموذج ثالث يخلو من عيوب كليهما.
يحتاج الأساس القبلي في ليبيا إلى مصالحة وتوحيد جبهة تحت راية المواطنة لا القبيلة، لئلا تعشم قبيلة بعينها نفسها بالسلطة. هذه المصالحة إما أن تطول بانتظار تكلفة بشرية متزايدة يثوب معها ذوو ضحاياها إلى رشدهم، أو تحدث فورا بدعوة قسرية من دول شقيقة قادرة وراغبة.
فالفصائل السياسية والميليشيات تستمد جل انتمائها ودعمها الأساسيين من القبائل، التي هي النسيج الأساسي للمجتمع الليبي. هذه الشرعية الاجتماعية التي تبارك من خلالها القبيلة انخراط أبنائها في الصراع، ستكرس مناطقية بغيضة بعد أن تضع الحرب أوزارها، لأن الضغائن المتبادلة ستعشش في الذاكرة، ولن يكفي دفع الديات لمحوها. وقد طالت المدة المرجوة لانتصار المشير حفتر.
الدافع الاقتصادي هو الحافز الخاص والعام في المعادلة. فمع استمرار فراغ السلطة الموحدة، قد تواصل القبائل القاطنة على مقربة من آبار النفط وأنابيبه ومصافيه حمايتها للمساومة أو الاستيلاء عليها لتأمين وضعها، والأسوأ أن تفعل ذلك لصالح وعود أجنبية مباشرة أو من خلال عملاء ووسطاء. هذا التأمين، الذي يتم مباشرة بميليشيات قبلية أو بتغذية ميليشيات مؤدلجة بعناصر قبلية بمقابل، قدوته القذافي وقبيلته كمثال للتغلب والاستئثار، وهو مثال يمكن تبنيه كطموح لدى سائر القبائل سواء أكان لتحقيق مجد قبلي أو بِرًّا بقناعة فكرية لها انسجام خارج الحدود.
هذا الاحتراب على موارد الدولة تضارب به شركات النفط العالمية الكبرى وحكوماتها، وهي إن وجدت عمالة استغلتها. يستلزم الأمر إعادة مفهوم المردود النفطي كحافز عام ضمن الدافع الاقتصادي للمواطنين كافة، لا خاصا بالأفضلية لفئة دون الآخرين.
بذات الأهمية، لا مناص من الاستبسال في مصادرة أو إغراق كل سفينة تحمل سلاحا ومؤنا من تجار الحروب والتدخلات، إن لم يكن لحجبها عن العملاء فلكسبها كترسانة إضافية ودليلا قضائيا للمستقبل يثبت للملأ التدخل السافر والغادر. الأمر مبكر على ملاحقة المتاجرين بأرواح الليبيين من وراء الحدود، دولا ومؤسسات، لكن يتوجب على متطوعي الوطن في الداخل والخارج جرد حساب الغدر والاستغلال، فهو مشروع مقاضاة دولية وتعويضات باهظة يستحقها الضحايا أو ذووهم فور استتباب الأمن واتضاح المسار.
العمل ما بعد الصراع لن يستقيم إلا بتوعية كافة الليبيين بدوافع وأساليب ومآلات وعلاجات تكالب الأطراف الخارجية على وطنهم، للعبرة والحيلولة دون تكرار ما حدث، والعظة الكبرى هي في الأسباب الخفية لسقوط القذافي، لأن الأسباب الظاهرة صارخة الوضوح. أقول هذا أملا في عودة الرخاء إلى أهل ليبيا، الذين ارتسمت لفردهم ذات يوم صورة الذي يحيى في نعيم خيرات وطنه، رأى عزا لم تشهده إفريقيا منذ حكم المانسا موسى لمدن الذهب في مالي، وأن يمعن المتعافين وكرام المقاصد من العرب في نجدة أخيهم الليبي، المستبسل في شهامته إذا ما ضيم عربي يوما في غربة.