كنت سأكتب مقالا كالعادة، لكن أحداث الأيام الماضية استوقفتني فجاءت قراءاتي كالموزاييك.
نعامات
في واحد من أكثر مشاهد الكوميديا السوداء هزلية في مسرحية بياع الخواتم للإخوة الرحباني، يسرق فضلو (جوزيف ناصيف) وعيد (إيلي شويري) جنى عمر زبيدة (سلوى حداد)، الذي كانت تخبئه في الزريبة (الإسطبل). وزبيدة كانت دوما تُنكر أن معها مال لذا حينما ركضت تولول أنه تمت سرقتها، سُئِلَت: "ليش انتي معك مصاري يا زبيدة؟" لترد: "أنا!!! يا دلّي، منين لي؟ (يا ربي من أين لي)؟"، فهي كان معها المال ولا زالت تُنكر.
تذكرت هذا المشهد عدة مرات خلال الأسبوع الماضي عندما تقدم عدة مسؤولين في لبنان، متهمين بابتلاع المال العام وهدره في إطار درامي، بتقديم موافقة لرفع السرية المصرفية عن حساباتهم، لعلهم يعتقدون أن الشعب سيصدق هذه المسرحية، ولعلهم كالنعامات التي تدفن رؤوسها في الرمال وفي اعتقادها أنها إذا لم تر الآخرين، فإن الآخرين لن يروها.
يعتقدون أن رفع السرية المصرفية سيكون كافيا لإثبات عدم سرقة المال العام على مدى العقود الماضية، وهو أمر مضحك. فالحسابات المصرفية يمكن نقلها بسهولة تحت أسماء شركات "أوفشور" لا تُظهر من هم مالكوها، أو يمكن وضع الأموال بأسماء الأحفاد أو الأقارب، وحتى الأصدقاء وبالتالي لا يمكن كشفها بسهولة.
ودعونا لا ننسى أن الممتلكات المنقولة وغير المنقولة كالعقارات في أوروبا وحول العالم، والطائرات الخاصة واليخوت والأسهم لا تدخل في عداد الأموال المشمولة بالسرية المصرفية المرفوعة ولا بالحسابات البنكية.
لكنهم يستمرون في مسرحية "التنازل" عن سريتهم المصرفية ليحاولوا الإثبات للناس أن قصورهم ونمط حياتهم المُترف، ورحلاتهم الخارجية وملابسهم التي يتخطى سعرها آلاف الدولارات لم تتولد عبر السرقة. لكن لم يكن أي منهم عند دخوله معترك العمل السياسي بالغنى الفاحش الذي هم عليه اليوم.
يسألني البعض: ما المطلوب؟ فأجيب: القيام بنفي ملكية داخل وخارج الوطن، وهي وسيلة تبحث في كل زاوية عما يملكه الشخص من شركات وعقارات وأموال منقولة وغير منقولة، أضف إلى ذلك ملاحقة ما يملكه الأقارب والمقربون من هذه الشخصية موضع الشك الذي يؤكد الشعب أنه سارق يقينا.
ولربما، برأيي إذا تعذر أمر ملاحقة هذه الأموال والأملاك بسبب الوقت والجهد الكبيرين، فعلى الشعب أن يلجأ لأسلوب ناجح اتبعه ولي عهد السعودية في استعادة الأموال المنهوبة أو جزء كبير منها لصالح الخزينة، فليفتح لبنان فرعا للريتز كارلتون يستضيف فيه كوكبة المشكوك بأمرهم. أنا على يقين بأن لبنان سيستطيع سد عجزه وأكثر في أقل من شهر.
جنة النفاق
ليل الثلاثاء سقط لبناني برصاص طائش إثر حدوث تلاسن بين عسكري أراد المرور وبين شاب كانت ترافقه عائلته ومجموعة كانت معه قطعوا الطريق أمام حركة السير، فما كان من العسكري إلا أن شهر سلاحه وأطلق عدة طلقات في الهواء لتفريق الناس، وكان قضاء الله وقدره أن يُقتل الشاب علاء أبو فخر بإحدى تلك الرصاصات.
من الضروري أن يعرف الناس التفاصيل لكي لا يقعوا في الخطأ مرة أخرى ويخسر الوطن شبابا يستعملهم السياسيون، كل السياسيين، وقودا في صراعاتهم المناطقية والطائفية والمالية والسلطوية.
من الضروري تسمية الأمور بأسمائها لكي لا تُفجع عائلة أخرى كما فُجعت عائلة أبو فخر، ولأنه مؤلم أن يُقتل أب أمام أطفاله وزوجته كما حدث مع علاء.
ومن الضروري وضع النقاط على الحروف لمنع الأحزاب من تسمية كل من سقط بالرصاص شهيدا، ويستعملون الكلمة عباءة يتغطون بها هم وخطاياهم، فتصبح عباءة الشهادة درعا في وجه أي انتقاد محق كان أم غير محق. ومن هذا المنطلق أنا أفهم ما قاله الكاتب الإنجليزي الشهير مارك تواين "إن الشهادة تُغطي الكثير من الخطايا"، ففي عالمنا العربي لا يجرؤ أحد على انتقاد شهيد على ما ارتكبه من أخطاء، و يا كثر الشهداء ومن يدّعي شهادة لغيره في منطقتنا.
لمن لم يعرف تفاصيل الحادث، فالمجموعة التي قطعت الطريق، ومن ضمنهم المغدور، يتبعون لأحد الأحزاب السياسية في المنطقة، بحسب المصدر.
اتخِذ القرار بإغلاق الطريق في وجه حركة السير احتجاجا على كلمة رئيس الجمهورية، من قبل أن تلقى، والتنفيذ بدء عند القائها، ورئيس الحزب هو خصم سياسي لرئيس الجهورية.
القاتل تم توقيفه، وتبين أنه يعمل في إمرة ضابط كبير "من نفس لون حزب القتيل" كما أكد لي مصدري في المنطقة بعدما استوضحته عما حدث.
لم أكن ملمة بتفاصيل الخبر كله، لذا آثرت الترحم على المتوفى في حسابي على "تويتر"، دون كتابة أي أمر آخر حتى تأكدت من المعطيات. ولكم أن تتخيلوا لو كان القاتل يتبع ضابطا لا ينتمي لنفس حزب القتيل. هل كان ليسكت ذاك الحزب، أم كان ليجيّش الشارع بطريقة لا تحمد عقباها؟ الأمثلة من ماضي ذاك الحزب أكثر من أن تعد وتحصى.
أما المغدور، فقد حولته وسائل الإعلام فجأة إلى شهيد الثورة الأول، واستغلوا صورة أطفاله وصورة دمائه وكلام زوجته الذي خرج من حرقة قلبها خلال العزاء، ليستعملوه خراطيش إعلامية سامة يتراشقونها كيفما طاب لهم الهواء والقلم.
مؤلم استغلالهم الموت بهذه الطريقة المخجلة. المؤلم أكثر أن نفس الإعلام، ونفس الأبواق تناست أن أول من سقط خلال الثورة، وتحديدا ثالث يوم في 19 أكتوبر، كان الشاب حسين حسن العطار، رفض فتح الطريق فأرداه "الأزعر" برصاصة استقرت في قلبه.
علاء نزل لقطع الطريق كأحد الثوار احتجاجا على كلمة لسياسي لم تقل بعد، وليطالب بغد أفضل لأطفاله، وحسين نزل منذ اليوم الزول لقطع الطرقات مع مئات من الشباب أمثاله احتجاجا على أوضاع البلد المعيشية المتردية وعدم وجود فرص عمل لهم، ولا ظهر سياسي يحميهم، فكان شهيد أول موجة من المطالب الشعبية.
هم بالكاد تذكروا حسين العطار في إعلامهم. بالكاد بضعة أسطر مرت، ولم يتابعوا عائلته. غريب أمر هذا الإعلام.
من يريد الحرب؟
قام رئيس الجمهورية اللبنانية، ولأكثر من ساعة، بالإجابة على أسئلة صحفيين اثنين غلب عليها طابع التكرار لدرجة أني أشفقت معها على الرئيس من أن يصاب بالملل.
الحوار أتى بين رئيس كان قد أجاب عن مجمل الأمور عدة مرات في السابق، وبين صحفيين استخدما أسئلتهما بطريقة تبريرية مسايرة بدلا من أن تكون مباشرة وواقعية، فلم يكن الحوار مقنعا وأتى أطول من أن يتحمل رتابته المواطن مسلوب الحقوق.
ومن سرعة تحرك المجموعات لقطع الطرقات عند بدء الحوار الرئاسي، نستشف تنسيقا حزبيا مسبقا لتشويش الشارع، وإلا فلماذا انتظروا يوما بكامله قبل قطع الطرقات عند بدء الحوار ليلا؟ لا يهم ما سيقوله الرئيس، المهم هو قطع الطرقات، هذه هي الرسالة.
وفي خط مواز لموضوع قطع الطرقات الذي انقسم حوله الثوار، بحسب المناطق، شهد لبنان عودة للمظاهر المسلحة. باتت هناك وقاحة في حمل السلاح علنا. باتت حجة كل من يريد إفراغ الشحن الطائفي والنفسي عبر إطلاق النار هي: أنا منزعج من قطع الطريق، وعاد الشد المذهبي والتجييش السياسي للواجهة.
وطوال يوم الأربعاء نسي اللبنانيون مسرحية الاستدعاءات القضائية لبعض المسؤولين من الصفين الثاني والثالث، وتناسوا موضوع حاكم مصرف لبنان الذي صرح في مؤتمره الصحفي كل ما كان لا يجب أن يتفوه به شخص في موقعه المسؤول. ولم يعد للناس حديث إلا تساؤل حول إمكانية عودة الحرب الأهلية.
فمن يريد عودة الحرب؟ بالتأكيد ليس المواطن العادي. لربما ميليشيات الحكم التي لم تتبدل هيكليتها ولا زعاماتها منذ الحرب الأهلية، وتعيش على أمجاد الحرب، حيث نشطت سياسات السرقة والتفرقة المذهبية. هي نفس السياسات حملوها معهم في زمن السلم، لكن بشكل مكبل. فهل ينشدون نسختهم الخاصة من الحرية ويدفعون باتجاه الحرب؟