من أغرب التبريرات في كل العصور والحكومات أن حكومة تبرر قتل مواطنيها المتظاهرين في وضح النهار وفي شوارع العاصمة والمدن الرئيسية بأنه (عمل ارتكبه مجهولون وأنها لا تعرف عنه شيئا)!.

فإن صح هذا التبرير المضحك المبكي فإنه يعني أن هذه ليست حكومة حقيقية لأنها فاقدة للسيطرة على أجهزتها، بل هي لا تعرف من الذي قتل 150 شابا عراقيا احتجوا على البطالة وسوء الخدمات وفساد النظام، وأصاب أكثر من ستة آلاف متظاهر بجروح خطيرة نتيجة إطلاق الرصاص الحي عليهم في العاصمة بغداد، وفي الناصرية والديوانية والعمارة ومدن أخرى. لذلك على هذه الحكومة أن تستقيل وتتيح المجال لحكومة أخرى قادرة على ضبط أجهزتها وحماية شعبها من هؤلاء (المجهولين).

وإن كانت تعلم من هم هؤلاء القتلة، لكنها تتستر عليهم، خشية منهم أو طمعا في دعمهم ومساندتهم لها، فإنها شريكة لهم في الجريمة ويجب محاسبة المسؤولين المباشرين عن هذا التواطؤ. أما إذا كانت أجهزتها هي التي قتلت الشبان بأوامر من المسؤولين المعنيين بالأمن، فإن هذه الحكومة تتحكم بها عصابة من المجرمين وهي لا تستحق البقاء بل يجب عليها المغادرة فورا وتقديم مرتكبي الجرائم إلى القضاء العراقي، أو ربما إلى المحكمة الجنائية الدولية، إن عجزت المحاكم العراقية عن مقاضاتهم، وهذا يحتاج ممن يمتلكون الأدلة، أن يقدموها إلى الجنائية الدولية للنظر فيها.

رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، الذي طالما افتخر بأنه لا يكترث للمنصب ومستعد للاستقالة في أي لحظة، بدا متمسكا بالمنصب أكثر من أي شخص آخر، بل إنه بز حتى نوري المالكي الذي رضي بالتنحي عن المنصب عندما رأى أن معظم العراقيين غير راضين عنه، بمن فيهم المرجعية الدينية الشيعية التي دعمت هذه الطبقة السياسية ووقفت معها، فاستقال وسمح بمجيء حيدر العبادي خلفا له، علما أنه كان زعيما لكتلة برلمانية كبيرة، خلافا لعادل عبد المهدي الذي لا ينتمي لأي كتلة وغير منتخب أساسا ولا أحد يعرف الأسس التي أختير رئيسا للوزراء عليها، وهذه من الألغاز المسكوت عنها في العراق.

يحاول عبد المهدي أن يستغل هذا الظرف العصيب الذي يمر به العراق فيحاول استبدال وزراء حاليين، غير معنيين بموضوع الاحتجاجات، مثل وزراء الهجرة والصناعة والصحة والاتصالات، بآخرين من أصدقائه والموالين له. بينما كان عليه أن يقيل وزيري الداخلية والدفاع ورئيس هيئة الحشد الشعبي الذين فشلوا في أداء واجباتهم في حماية الشعب العراقي من القتل، وضمان حقه في التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي. المرجعية الدينية الشيعية انتقدت بشدة موقف الحكومة في خطبة الجمعة المنصرمة وطالبت بتحقيق ينجز خلال أسبوعين لمعرفة من الذي ارتكب مجزرة الشبان العراقيين المحتجين على الفساد.

ومن خلال سجل الحكومات العراقية المتعاقبة في التحقيقات، لن يتوقع أحد أن تحقيقا تجريه جهة مرتبطة بالحكومة سيقود إلى نتيجة حاسمة، بل حتى نتائجه لن تعلن على الملأ.

إن مطالبة الجناة بإجراء تحقيق في جناية ارتكبوها هو طلب مثير للسخرية لذلك فإن التحقيق في مثل هذه الأمور يجب أن تضطلع به جهة مستقلة تماما عن الحكومة ومؤسساتها.

الجميع في العراق يعلم من ارتكب هذه الجرائم بحق الشبان العراقيين المحتجين، لكن كثيرين أصبحوا يخشون الإشارة لهم بالاسم كي لا يلقوا مصيرا مماثلا.

الدور الإيراني في قمع المتظاهرين العراقيين، المباشر وغير المباشر، واضح لكل ذي عين في العراق وخارجه، وإلا لماذا تضطلع إيران بقوة في عملية (شيطنة) المتظاهرين واتهامهم بالعنف وهم ضحاياه؟.

وما الذي يدعو الزعيم الإيراني علي خامنئي إلى الاهتمام بمظاهرات شعبية داخلية على حكومة بلد آخر، كي يرسل تغريدة عبر تويتر يصف فيها الاحتجاجات بأنها "مؤامرة" وأن الارتباط الإيراني العراقي يزداد "وثاقة" وأن "الأعداء عجزوا عن التفرقة بينهما"؟.

من هم الأعداء؟ هل يحسب الزعيم الإيراني المتظاهرين العراقيين ضد نظام بلدهم أعداء لإيران؟ ولماذا تصدر السلطات الإيرانية ورجال الدين الإيرانيين التصريحات والبيانات حول التظاهرات العراقية؟أليست هي شأن عراقي داخلي فلماذا يقفون ضد مطالب الشعب؟.

أحد خطباء الجمعة الإيرانيين ادعى أن هذه التظاهرات تهدف إلى إرباك وعرقلة (زيارة الحسين)! بينما قال خامنئي في تغريدته أن (العراقيين والإيرانيين يشتركان بالإيمان بالله وحب أهل البيت والحسين)! فهل هذا اكتشاف جديد لخامنئي؟.

وهل العراقيون والإيرانيون وحدهم يؤمنون بالله دون الشعوب الأخرى؟ أم أنه توظيف للدين والمذهب ضد مطالب الشعب العراقي المشروعة، وطموحات الشبان العراقيين الذين يريدون المساهمة في بناء دولتهم والعيش بحرية وكرامة؟ يتوهم خامنئي إن كان مازال يعتقد بأن الخطاب الديني الإيراني سينطلي على الشعب العراقي، خصوصا وأن العشب الإيراني نفسه لم يعد مقتنعا به، بل رأى أخطاره وأضراره على إيران نفسها.  


التدخلات الإيرانية في الشؤون العراقية وصلت حدا لا يطاق، خصوصا إذا ثبت أن النظام الإيراني يقف وراء قتل الشبان العراقيين في انتفاضة أكتوبر وقمع التظاهرات السلمية عبر مليشياته المسلحة العاملة في العراق. إن كان المجتمع الدولي حقا يريد أن يدرأ الخطر الإيراني فعليه أن يحمي العراق قبل البلدان الأخرى من تدخلات إيران، فإن سيطرت إيران على العراق، وهي سائرة في هذا الطريق بقوة، فلن تستطيع قوة إقليمية إيقافها عن التوسع والتمدد في المنطقة وخارجها. الأمريكيون يعرفون جيدا ما تفعله إيران في العراق، وخلال رئاسة أوباما تحديدا، تمددت إيران وأتباعها في كل مفاصل الدولة العراقية بينما كانت أمريكا تنسحب أمام هذا التمدد بسبب اتباعها سياسة أنانية لاأبالية قصيرة النظر.


الحصار الأمريكي على إيران زاد الطين بلة ودفع الإيرانيين بقوة إلى العراق وجعلهم يستخدمون نفوذهم فيه للتخفيف من الاختناق الاقتصادي الذي يعانون منه. لكن العراق، بكل مصادره الطبيعية وإمكاناته الاقتصادية لن يتمكن من إنقاذ إيران من ورطتها التي وضعت نفسها فيها. لذلك على الإيرانيين أن يجدوا حلا لمشاكلهم مع المجتمع الدولي الذي يرفض سياساتهم وتمددهم خارج حدودهم بدلا من تخريب العراق الذي لن يكون في مصلحتهم على الأمد البعيد. كما إن الحلم الإيراني في السيطرة على العراق غير ممكن التحقيق، بل سيقود إلى المزيد من القطيعة بين البلدين والشعبين.

القوى السياسية المتشدقة بالدين المساندة لإيران في العراق تضعف بمرور الزمن بسبب فسادها وانفضاض الناس عنها لأنانيتها وفشلها، وقد اتضح هذا جليا في الاحتجاجات الأخيرة التي لم تشترك بها أي قوة سياسية بل كانت شعبية عفوية.


العراقيون لن يقبلوا بالهيمنة الإيرانية على بلادهم، بل سيرفضونها ويلفظونها، وإن أقحمت نفسها عليهم بالقوة، فستكون ردود أفعالهم مناوئة لها بالقوة نفسها، أو ربما أشد، ولن يكون ذلك في صالح العلاقات الثنائية الطويلة الأمد بين البلدين.

الاحتجاجات الأخيرة لم تكن من أجل الخدمات والوظائف فحسب، بل كانت من أجل إصلاح النظام والقضاء على الفساد المستشري فيه، وأبرز نقطة في الفساد هي التمدد الإيراني غير المشروع خصوصا تمدد المليشيات المسلحة المرتبطة بها في مؤسسات الدولة العراقية وتجاوزها على القانون وعلى حقوق العراقيين وحرياتهم.

المسؤولون العراقيون يعلمون جيدا أن هذه المليشيات مرتبطة بالقادة العسكريين الإيرانيين مباشرة، لكنهم نكصوا عن مواجهة هذا الخطر الداهم على العراق. هذا النكوص عن مواجهة الخطر الإيراني يقترب من الخيانة، ولا أحسب أن العراقيين سيغفرون للسياسيين والمسؤولين المتواطئين فيه.

التناحر والتنافس السياسي في ظل وجود تهديدات خارجية للعراق لم يعد مشروعا ولا مقبولا، ولن يكون مشروعا إن كان البلد يواجه أخطارا خارجية. كل البلدان التي واجهت أخطارا خارجية، اتحدت قواها السياسية واتفقت على مواجهتها، ولم تعد إلى التنافس فيما بينها إلا بعد تمكنها من صده.

ومن هنا فإن القوى الوطنيية العراقية مدعوة للتفاهم حول مستقبل العراق الذي اصبح على كف عفريت بسبب التدخل الإيراني المباشر فيه، والتوصل إلى مقاربات عملية تُخرِج العراق من النفوذ الإيراني وتعيد إليه هيبته كدولة متماسكة تلعب دورا اقتصاديا وسياسيا إيجابيا في العالم.

حكومة إقليم كردستان والقوى السياسة الكردية، التي يبدو أنها غير مكترثة لما يجري في أنحاء العراق الأخرى، مدعوة هي الأخرى للتفكير بحلول عملية تخرج العراق من المأزق الذي دخل أو أُدخِل فيه، وعلى الاكراد ألا يتوهموا بأنهم في منأى عن التدخل الإيراني وأنه سيطاول العرب فقط أو الشيعة فقط. لن يكون الإقليم قويا إن كان العراق ضعيفا وهذه حقيقة يجب أن يدركها السياسيون الكرد. ليست هذه دعوة للعداء لإيران لكنها دعوة لإقامة علاقات ثنائية مثمرة معها تقوم على احترام سيادة العراق وثقافة شعبه المختلفة وحضارته العريقة المتميزة بين حضارات العالم، وحرية شعبه في اختيار نظام حكم عصري، مستقل ومقبول دوليا، يلبي طموحات شبابه التائق نحو الحرية والرخاء.