تمر إيران اليوم بظروف تشبه إلى حد كبير ما كانت عليه قبل الثورة عام 1979، حيث يتسع غضب المواطنين بشكل متسارع اعتراضا على سياسات النظام الإيراني على كل الأصعدة، وأضحت الاحتجاجات والشعارات المناهضة للنظام والمطالبة بالحقوق القومية للشعوب غير الفارسية، لا تفارق الشوارع والميادين وحتى ملاعب كرة القدم.

وعبر النظام الإيراني، ومعه القوى الفارسية المعارضة له، عن قلقهما الشديد من توجه البلاد نحو هاوية التفكك المحتوم، واعتبرا أن عملية إطاحة النظام الحالي تؤدي إلى انهيار الدولة الإيرانية، وذلك نتيجة تصاعد وتيرة المطالبة بالحقوق القومية من جهة، والقمع والحرمان الممنهج التي تمارسه طهران بحق الشعوب غير الفارسية من جهة ثانية.

ومنذ احتلال إيران مناطق الشعوب غير الفارسية وإسقاط سيادتها، تبنت طهران 5 ركائز أساسية من أجل الحفاظ على أمنها القومي وخارطتها الجغرافية وهي:

الحداثة

تأثرا بأتاتورك مؤسس تركيا الحديثة وتقربا للغرب، وبهدف طمس هوية الشعوب غير الفارسية، حاول رضا شاه البهلوي ومن بعده ابنه محمد رضا، فرض نظام "الحداثة" في إيران من خلال تبنى العلمانية نهجا سياسيا للنظام وتوحيد اللباس واللغة والثقافة نهجا عاما لمجتمع غير متجانس في القضايا الأساسية كاللغة والمذهب والثقافة والجذور التاريخية.

لم يتمكن النظام البهلوي السابق من توحيد وتحديث المجتمع نتيجة مقاومة الشعوب غير الفارسية لتلك السياسة. وسقطت هذه الركيزة بالكامل عندما سيطر نظام الخميني على السلطة عام 1979 ورفضه لكل ما يتعلق بالحداثة الغربية.

التشيع

طرحت إيران نفسها منذ فترة طويلة مدافعة وحاضنة مذهب التشيع في المنطقة، واعتبرته أحد أهم ركائزها ومقوماتها التي من خلاله يمكنها السيطرة على الشعوب غير الفارسية، من خلال تذويب مذاهبها في المذهب الشيعي.

لكن لأسباب عقائدية وسياسية شهدت مناطق الشعوب غير الفارسية في الآونة الأخيرة ظاهرة انتشار "التسنن" بشكل واسع، خاصة في الأحواز وأذربيجان الإيرانية، بغية قطع كل المشتركات مع طهران.

وحذر العديد من المسؤولين الإيرانيين من تداعيات تراجع المذهب الشيعي على وحدة إيران وأمنها القومي.

الفارسية

تعتبر "الفارسية" من أهم أركان الدولة الإيرانية، حيث ركزت طهران بشكل أساسي على "الفارسية" عنصرا وثقافة ولغة في تكوين إيران الحديثة.

ويعد نكران وجود الشعوب والقوميات غير الفارسية، من أبرز سمات الدولة الإيرانية على مدى ما يقارب القرن من الزمان.

ورغم تنفيذ سياسيات وإجراءات عدة في إطار سياسية "التفريس" ومحالات لطمس ثقافة وهوية الشعوب غير الفارسية، اعترف وزير التعليم الإيراني حميد رضا حاجي بابائي، في فترة رئاسة أحمدي نجاد، بأن 70 بالمئة من الطلاب في إيران يتحدثون لغتين، فيما لا تعد الفارسية لغتهم الأولى. وهذا الاعتراف يعد دليلا واضحا على فشل السلطات الإيرانية في جعل إيران فارسية.

شعور الانتماء

يشكل شعور الانتماء إلى الأمة او الوطن، أحد أهم الركائز التي تعتمد عليها الدول من أجل الحفاظ على أمنها القومي، لذلك حاولت طهران خلق شعور الانتماء إلى إيران كوطن لجميع مكونات إيران القومية والمذهبية، من خلال تعظيم تاريخ وثقافة الفرس وتزوير وتحقير تاريخ وثقافة المكونات الأخرى.

وتشير المعطيات إلى أن محاولات طهران تلك ذهبت أدراج الرياح، بسبب تنامي الشعور القومي والطموح المتزايد لدى الشعوب غير الفارسية لنيل الاستقلال عن طهران.

سياسة القمع

تزامنت سياسات ومحاولات إيران بغية تكريس الركائز والعوامل لبناء الدولة الإيرانية، مع سياسة القمع المفرطة التي استخدمتها طهران، ولا تزال، بحق أبناء الشعوب غير الفارسية.

وأثبتت الشواهد عبر الانتفاضات والاحتجاحات المستمرة في الأحواز وبلوشستان وكردستان وأذربيجان وتركمنستان، أن القمع والقبضة الحديدية لن يجديا نفعا، حيث يزداد سقف المطالب ويتوسع الشرخ السياسي والثقافي والاجتماعي يوما بعد يوم، ما بين طهران من جهة والشعوب غير الفارسية من جهة أخرى.

وفي النتيجة النهائية نستطيع القول إن العد العكسي لانهيار وتفكك الدولة الإيرانية قد بدأ بالفعل نتيجة عوامل عدة ذاتية وموضوعية، ترتبط بوعي الشعوب غير الفارسية وعملها المتصاعد نحو الاستقلال والتخلص من الهيمنة الفارسية.

وما فشل الركائز والسياسات التي اعتمدتها إيران في بناء دولتها الحديثة والحفاظ عليها إلا دلائل ملموسة لذلك التفكك الحتمي.

لن تستطيع طهران الوقوف بوجه حركة الشعوب الزاحفة نحو الحرية، وسوف لن تتوقف المتغيرات السريعة وتداعياتها الخطيرة التي تعصف بالمنطقة عند حدود إيران، خاصة أن البلاد تعاني عزلة إقليمية ودولية منذ فترة طويلة، وأزمة اقتصادية مزمنة نتيجة الفساد الإداري المنظم وسيطرة الحرس الثوري على جميع مفاصل الدولة، وإنفاق النظام الإيراني مليارات الدولارات على مشروعاته التوسعية ودعمه للإرهاب على حساب المواطنين الذي يعيش أكثر من نصفهم تحت خط الفقر.