"لا تبقي ولا تذر".. ربما يكون هذا الوصف الدقيق لما آلت إليه الحرب الإسرائيلية ضد غزة والممتدة منذ أكتوبر الماضي وحتى يومنا هذا، خسائر بشرية ومادية عميقة لن تندمل بسهولة، خاصة مع صدور تقرير حديث، يظهر جانبا مظلما جديدا للحرب ألا وهو حجم الأنقاض.
ذكر تقرير لوكالة بلومبرغ، اطلعت عليه سكاي نيوز عربية،أن غزة تحولت إلى 42 مليون طن من الأنقاض المبعثرة في كل مكان.
وأفاد التقرير أن أكثر من 70 بالمئة من مساكن غزة، التي استنزفت بالفعل بسبب الصراعات السابقة، تضررت، إلى جانب المستشفيات والشركات والمصانع الصغيرة.
وتقول وكالات الإغاثة إن معظم سكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة نزحوا، وتكدسوا في أمكان صغيرة من قطاع غزة على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، محرومين إلى حد كبير من المياه العذبة والغذاء، فضلاً عن الأدوية والصرف الصحي وخدمات الحياة الأساسية.
وفي خضم كل هذا الدمار، أسفر الرد الانتقامي الذي شنته إسرائيل عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص في غزة، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينة التابعة لحركة حماس، والتي لا تميز بين المدنيين والمقاتلين.
ونظرا لحجم الدمار الهائل، فإن محادثات وقف إطلاق النار التي استؤنفت الخميس في العاصمة القطرية الدوحة، تجري أيضا بشكل موازي مناقشة عملية إعادة الإعمار على مستوى رفيع.
وحتى الآن، خلفت الغارات الجوية الإسرائيلية أكثر من 42 مليون طن من الأنقاض في مختلف أنحاء القطاع، وفقاً للأمم المتحدة.
ما الذي يتطلبه الأمر لإعادة الإعمار في غزة؟
هذا الحجم من الأنقاض يكفي لملء صف من شاحنات القمامة الكبيرة يمتد من نيويورك إلى سنغافورة. وقد يستغرق إزالة كل هذه الأنقاض سنوات طويلة وقد يكلف ما يصل إلى 700 مليون دولار. وسوف تتعقد المهمة بالتأكيد بسبب القنابل غير المنفجرة والمواد الملوثة الخطيرة والبقايا البشرية الموجودة تحت الأنقاض.
وسوف يتعين إزالة ما لا يقل عن 8.5 مليون طن من الأنقاض من خان يونس لوحدها.
خان يونس التي كانت تنتج في السابق معظم الحمضيات في غزة، بما في ذلك البرتقال والجريب فروت، الآن أصبحت بساتينها وحقولها في حالة خراب ــ فقد دُمر ما لا يقل عن نصف الأراضي الزراعية في القطاع، مما أدى إلى انهيار القطاع الزراعي الذي سيستغرق التغلب عليه سنوات، وفقاً لمؤسسة جذور الخيرية المحلية التي تتعاون مع منظمة أوكسفام.
والوضع يزداد خطورة في الشمال، فقد تعرضت مدينة غزة ــ التي كانت في السابق أكبر مركز حضري في الأراضي الفلسطينية ــ والمناطق المحيطة بها لأضرار جسيمة، حيث تستحوذ على أكثر من نصف الحطام في القطاع.
ومن جهته، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس الدكتور أيمن الرقب، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن البنى التحتية دمرت بشكل كامل في غزة مثل المشافي والمدارس والطرق، و80 بالمئة من منازل غزة بين تدمير كلي وجزئي، وهذا يعني أن غزة تحتاج إلى بناء من جديد، ويحتاج ذلك إلى 90 مليار دولار بشكل أولي.
وأوضح: الأنقاض في غزة أصبحت أكواماً، وستحتاج إلى سنوات لرفعها.. إسرائيل تريد إحباط الفلسطينيين بالقول إن غزة لم تعد مؤهلة للحياة بسبب دمار البنى التحتية وانتشار الأوبئة وهدم المساكن، بجانب الوضع الاقتصادي السيئ، والبطالة في القطاع قبل الحرب تجاوزت نسبتها 55 بالمئة، وما يحدث الآن هو محاولات لرفع الحالة المعنوية للفلسطينيين في غزة، لكن الصورة بشكل عام قاتمة "لا تعطي بشائر بإننا قادرون على اجتياز كل هذه الأزمة بشكل سريع".
مهمة شبه مستحيلة
إن إعادة بناء غزة، وعودة حياة سكانها، سوف تتطلب إصلاحاً شاملاً للبنية الأساسية والتحتية بالكامل، فضلاً عن التوصل إلى شكل ما من أشكال الحل السياسي بشأن الشكل الذي سوف تبدو عليه غزة الجديدة. ولكن قبل أن يتسنى تحقيق أي من هذه الأهداف، فإن جمع كل الأنقاض والتخلص منها ــ بعد انتهاء الحرب ــ سوف يشكل أهمية بالغة.
أن حقوق ملكية العقارات وصعوبات إيجاد مواقع للتخلص من الحطام الملوث ستزيد من تعقيد العملية.
إن إعادة بناء غزة قد يكلف أكثر من 80 مليار دولار، إذا أخذنا في الاعتبار النفقات الخفية مثل التأثير الطويل الأجل لسوق العمل المدمر بسبب الموت والإصابة والصدمات، وفقًا لدانييل إيجل، كبير الاقتصاديين في مؤسسة راند البحثية ومقرها كاليفورنيا.
وقال إيجل: "يمكنك إعادة بناء مبنى، ولكن كيف يمكنك إعادة بناء حياة مليون طفل؟"، ولم يتضح بعد من سيدفع هذا الثمن.
من جانبه، قال مارك جارزومبيك، أستاذ تاريخ العمارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والذي درس إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية "إن ما نراه في غزة هو شيء لم نشهده من قبل في تاريخ التحضر"، مضيفا "إن الأمر لا يتعلق فقط بتدمير البنية التحتية المادية، بل إنه يتعلق بتدمير المؤسسات الأساسية للحكم والشعور بالحياة".
وأضاف جارزومبيك: "إن تكلفة إعادة البناء ستكون باهظة. يجب أن تكون مواقع البناء على هذا النطاق خالية من الناس، مما يخلق موجة أخرى من النزوح. بغض النظر عما يفعله المرء، فإن غزة ستكافح مع هذا لأجيال".
كان اجتماع الدول المانحة والجمعيات الخيرية العالمية في مدينة رام الله بالضفة الغربية في 12 أغسطس بمثابة بداية لتلك الجهود لتأمين المساعدات المالية.
وقد ناقش الاجتماع، الذي نظمته برامج الأمم المتحدة للتنمية والبيئة والسلطة الفلسطينية - الهيئة الوحيدة المعترف بها دوليًا والتي تمثل الفلسطينيين - ما يجب أن يحدث بعد ذلك.
وقال وزير الأشغال العامة والإسكان في السلطة الفلسطينية عاهد بسيسو للصحفيين بعد الاجتماع إنه نظرا للأموال والقوى العاملة والمعدات اللازمة فإن وضع خطة الآن لإزالة الحطام أمر بالغ الأهمية حتى يمكن بدء العمل بمجرد انتهاء القتال.
إن غزة ليست بعيدة عن الصراعات. فقد خاضت حماس أربع حروب أخرى مع إسرائيل منذ عام 2007 عندما انتزعت السلطة في القطاع من فتح، منافستها التي تقود السلطة الفلسطينية ومقرها في الضفة الغربية، وهي الأكبر بين المنطقتين الفلسطينيتين. وهذه الحرب هي الأطول والأكثر ضرراً.
بعد جولات سابقة من القتال، كانت دول الخليج والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان من بين المانحين الذين تعهدوا، ولكنهم لم يقدموا دائماً، الأموال لمساعدة غزة على التعافي.
وكانت دولة الخليج من أكبر الداعمين - حيث استثمروا بشكل مباشر في الطرق والمستشفيات والمجمعات السكنية، فضلاً عن المشاريع الزراعية والبنية الأساسية، بالإضافة إلى المنح، والتي بلغت مئات الملايين من الدولارات على مدى عقد من الزمان. لكن اللاعبين الرئيسيين قالوا إنهم مترددون في المساهمة مرة أخرى دون مسار تفاوضي لحل سياسي ينهي دائرة العنف.
وعلى الرغم من تعرض القطاع في غزة للتهميش منذ استيلاء حماس على السلطة قبل 17 عاما، لا تزال السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح تدفع نحو 40 بالمئة من الإنفاق الرسمي للقطاع، مثل رواتب ومعاشات موظفي الخدمة المدنية، فضلا عن الخدمات مثل المياه والكهرباء، التي تسيطر عليها إسرائيل إلى حد كبير.
كما نسقت جهود إعادة الإعمار في أعقاب الصراع السابق بين إسرائيل وحماس مع المؤسسات الدولية ومنظمات الإغاثة والوكالات المختلفة للأمم المتحدة. ومن المرجح أن يكون هذا هو الحال هذه المرة أيضا.
سيتعين على جميع الأطراف الاتفاق على مخطط لإعادة الإعمار، وفي مقدمتها إسرائيل، التي منعت ما يسمى بالمواد ذات الاستخدام المزدوج - أو أي شيء يمكن أن يساعد حماس في بناء الأنفاق أو الأسلحة - من دخول الأراضي منذ عام 2007.
وقال بسيسو في مقابلة: "نأمل في الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة. نحن بحاجة إلى التحرك بحرية والسيطرة على حدودنا حتى تدخل المواد إلى غزة، ونأمل أن لا تمنع إسرائيل دخولها".
وعندما سُئل عن إزالة الأنقاض، قال المتحدث باسم منسق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وهي هيئة تابعة لوزارة الدفاع، إنه يركز على تسهيل المساعدات في الوقت الحالي. وقال مسؤولون إسرائيليون إنه من السابق لأوانه التعليق على إعادة الإعمار.
في سياق متصل، يُعلق مدير مركز رؤية للدراسات الاقتصادية، بلال شعيب، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قائلاً: إن قضية غزة تحتاج إلى تكاتف دولي، فإسرائيل أكلت اليابس والأخضر، وغزة تحتاج إلى إعادة إعمار، والأرقام المعلنة حتى الآن من بعض الأطراف مثل الأمم المتحدة في هذا الشأن لا تكفي ومن الممكن أن تكون أعلى من ذلك.
وأوضح: إعادة الأعمار في غزة قد يتجاوز 100 مليار دولار، إزالة الأنقاض نفسها تتطلب 700 مليون دولار وفقاً لبعض التقديرات لأن إسرائيل قضت على الحياة الاقتصادية في غزة بشكل كبير جداً مثل: المساكن، المصانع، والأراضي الزراعية، وهذا يؤدي بالطبع إلى ضيق المعيشة، وارتفاع معدلات البطالة، بالإضافة إلى الكارثة الإنسانية في ظل المجاعة وعدم توافر المياه والغذاء والدواء، فهذه الحياة لا تصلح للبشر.
حال التوصل إلى حل سياسي لأزمة غزة سنحتاج إلى حل اقتصادي، مثل: مصادر التمويل، التي ينبغي أن توفر على الأقل 100 مليار دولار، وإعادة الإعمار مرتبط بإنشاء بنية تحتية قوية، بجانب إزالة المخلفات نتيجة هذه الحرب الشرسة، وهذا يشكل عائقاً اقتصادياً آخر يتطلب تكلفة لإزالة المخلفات من جانب وإعادة البنية التحتية مرة أخرى، بحسب "شعيب".
ويضيف: نحتاج إلى إعادة بناء المصانع، والمستشفيات، ودور العبادة، والمساكن، وغيرها، والأهم من كل ذلك ترميم الإنسان الذي هو أهم ثروة موجودة على وجه الأرض وأهم مورد تم إهداره، لذلك تكلفة إعادة بناء غزة ستكون كبيرة جداً تحتاج تكاتف المجتمع الدولي.
الصورة مروعة
من جانبه، يقول الباحث في الشأن الإسرائيلي الدكتور أحمد فؤاد أنور، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن تقرير بلومبرغ سكت عن ذكر أمور مخيفة تتم على الأرض في غزة من مذابح وتدمير وعقاب جماعي وتجويع، والهدف من هذه الحرب هو جعل الفلسطينيين يغادرون أرضهم، والسعي لترحيل جماعي لهم وإعادة المستوطنات إلى قطاع غزة، أو ما يسميه الإسرائيليون تقليل عدد السكان.
واستكمل: بدأ الحديث بالفعل عن إعادة الإعمار وإزالة الركام وإدخال الأعمال الإغاثية، لكن ذلك يتطلب ميزانيات ضخمة، والرئيس الفلسطيني محمود عباس يسعى للعودة إلى القطاع، في حين أنه لا يستطيع الحصول على مستحقات الجانب الفلسطيني التي تحاصرها إسرائيل الخاصة بالجمارك، ولا يستطيع أبومازن حماية المخيمات ومنع المستوطنين من الاقتحامات المتكررة.
إعادة الإعمار يحتاج إلى تنسيق مع الجهة التي تحمل السلاح داخل القطاع وموافقة الأطراف المتبرعة المانحة على الجهة التي ستدير القطاع، ومن الصعوبة بمكان إيجاد جهات تنفذ هذا الإعمار وتتولى حمايته خاصة إذا كان هذا الأمر يتعلق باحتمالية تدمير آخر أو مواجهات أخرى مع الجانب الإسرائيلي واعتداءات أخرى منهم، بالتالي إعادة تدمير ما تم تشييده، بحسب "أنور".
وأوضح: في بيروت حتى الآن هناك ركام لم يتم إزالته من فترة الحرب الأهلية والعدوان الإسرائيلي، وهذه أمور تحتاج إلى أموال ضخمة وفترة كبيرة جداً، وهناك تفش لأمراض جديدة في القطاع، وهناك بطالة لكنها تصب في مصلحة المقاومة، سيرغب هؤلاء في الانتقام وسينضمون لأي جهة مقاومة، وهذا الأمر لا بد له من نظرة شاملة عن طريق واجهة شعبية مقبولة على الساحة داخل غزة أو على المستوى الإقليمي، على حد قوله.
وبين: إسرائيل تخشى من احتمالية استعمال أموال إعادة الإعمار إلى المقاومة وبناء الأنفاق، وهذه أمور معقدة تحتاج إلى تضافر الجهود، واطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته طالما أن "الأونروا" تم شيطنتها، خاصة وأن اتهامات إسرائيل لها تبين أنها فردية، ويجب أن يكون للأونروا دور في إعادة الحياة الطبيعية إلى قطاع غزة.
وفي يونيو، أعلنت الأمم المتحدة الجمعة أن الحرب في غزة أدت إلى ارتفاع نسبة البطالة في القطاع الفلسطيني المحاصر إلى نحو 80 بالمئة.
وقالت وكالة العمل التابعة للأمم المتحدة إن الحرب بين حماس وإسرائيل "تسببت في خسارة الوظائف وسبل العيش على نطاق واسع"، فيما انخفض الناتج المحلي الإجمالي.
وأكدت منظمة العمل الدولية أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي انكمش بنسبة 83,5 بالمئة في قطاع غزة وبنسبة 22,7 بالمئة في الضفة الغربية خلال الأشهر الثمانية الماضية.
وكانت الأمم المتحدة قد توقعت في مايو الماضي، أن يستغرق التعافي من الدمار الهائل وغير المسبوق الذي لحق بالقطاع بسبب الحرب حوالي 80 عاما.
الخسائر الإسرائيلية
بالإضافة للخسائر المادية والاقتصادية الكبيرة، فقد تسبّب هجوم حماس بمقتل 1198 إسرائيليا وأجنبيا معظمهم من المدنيين، بحسب أرقام إسرائيلية رسمية. وواحد من ثلاثة من هؤلاء القتلى من القوى الأمنية: 306 جنود وستون شرطيا وعشرة من أفراد جهاز الأمن الداخلي (شين بيت).
كما قتل 76 أجنبيا في هذه الهجمات، بينهم 41 تايلانديا.
ومن بين 690 من أفراد قوات الأمن قتلوا منذ بداية الحرب، هناك 330 جنديا قضوا في ميدان القتال في غزة منذ 27 أكتوبر، تاريخ بدء العمليات البرية الإسرائيلية داخل القطاع الفلسطيني.
في الضفة الغربية التي تسيطر عليها إسرائيل منذ العام 1967، قتل 18 إسرائيليا بينهم جنود ومستوطنون ومدنيون خلال أعمال عنف منذ السابع من أكتوبر.
وفي شمال إسرائيل وهضبة الجولان المحتلة، قتل 26 مدنيا و22 جنديا جراء هجمات صاروخية يشنّها حزب الله اللبناني، وفق أرقام إسرائيلية رسمية. ونزح عشرات الآلاف.
واقتيد خلال هجوم حماس في أكتوبر 251 شخصا رهائن، لا يزال 111 منهم محتجزين في قطاع غزة، بينما لقي 39 حتفهم، وفق تقديرات الجيش الإسرائيلي.
وتوصّل الجانبان في نوفمبر إلى هدنة استمرت أسبوعا أطلق خلالها سراح 105 رهائن مقايل 240 أسيرا فلسطينيا لدى إسرائيل وأعيدت جثث 24 رهينة إلى إسرائيل.