شيدت وزارة الداخلية المصرية سبع جدران من الكتل الأسمنتية الضخمة في وسط القاهرة لتحمي مقرها من المتظاهرين، فرسموا عليها امتدادا للشارع وأشخاصا وأشجارا تحاكي الواقع ليسقطوا الجدار بفنهم، وعندما محا أنصار الجماعات الإسلامية رسومهم من على أسوار قصر الاتحادية الرئاسي كان أول ما عادوا ليكتبوه عليها "مبروك البوية الجديدة" ليتحدوا بالابتسامة. محاولة محو فنهم.
"فن الغرافيتي ازدهر بفعل ثورة 25 يناير، لكن قبلها كان الأمن يلاحقنا والأن يلاحقنا الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية"، كما يقول فنان الغرافيتي أحمد بيرو لسكاي نيوز عربية.
في سبتمبر 2012 أزالت وزارة الداخلية كل لوحات الغرافيتي التي كانت تزين منذ الثورة جدران بنايات ميدان التحرير والشوارع المحيطة به، بعد قرار لرئيس الوزراء هشام قنديل، الذي عينه الرئيس محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، في إطار حملته لتطوير الميدان.
من الرسوم التي أزيلت جداريتان على حائط الجامعة الأميركية بشارع محمد محمود تعدان من أشهر اللوحات التي ظهرت بعد الثورة.
الأولى كانت لنساء من العهد الفرعوني للفنان علاء عوض، وتحاكي جدارية النائحات الشهيرة على مقبرة رع موزا في مقابر الأشراف الفرعونية بمدينة الأقصر التي ينتمي إليها عوض حيث يعمل معيدا في كلية الفنون الجميلة.
ويقول عوض إنه أراد أن يسجل "عزاء واجبا لكل الشهداء الذين سقطوا منذ الثورة".
وإذا كانت النائحات القدامى ينتحبن على صاحب المقبرة من نبلاء الفراعنة فنائحات عوض، وإن كان شكلهن فرعونيا، فهن أمهات وشقيقات الشهداء وشريكاتهن في الوطن.
أما اللوحة الثانية التي أزيلت فكانت "اللي كلف ما ماتش" للفنان عمر فتحي الشهير بعمر بيكاسو. فيها يظهر نصف وجه مبارك بينما نصف وجهه الأخر للمشير حسين طنطاوي وزير الدفاع ورئيس المجلس العسكري في عهده.
فتحي رسمها بعد تولي المجلس العسكري إدارة المرحلة الإنتقالية في مصر بعد تنحي مبارك يوم 11 فبراير 2011 وتكليفه الجيش بتولي إدارة البلاد خلفا له.
عندما محيت اللوحة، عاد عمر بيكاسو بعدها بأيام ليرسمها، ولكن مع إضافة وجه الرئيس مرسي إلى وجهي مبارك وطنطاوي.
"الفكرة واضحة فمثلما كان طنطاوي الوجه الأخر لمبارك فإن مرسي هو الوجه الأخر لنفس العملة على الرغم من أنه رئيس منتخب"، كما يشرح الفنان.
في ديسمبر الماضي، رسم عمر بيكاسو نفس الصورة بالوجوه الثلاثة، ولكن هذه المرة على سور قصر الإتحادية الرئاسي عندما تظاهرت الجماهير المعارضة للإعلان الدستوري الذي أعلنه مرسي مانحا لنفسه بمقتضاه سلطات غير مسبوقة لرئيس من قبله.
وفي ثوان امتلأت جدران أسوار القصر بالرسوم والشعارات. وعندما هاجم في اليوم التالي أنصار الرئيس معارضيه المعتصمين عند القصر، كان عدد من أنصار الجماعات الإسلامية يقومون بطلاء الجدران لإزالة الرسوم ، بينما المعارك بين المؤيدين والمعارضين مستعرة.
"هذا ليس فن، هذه بذاءة ولا يجوز أبدا سب رئيس الدولة"، كما قال أحمد حمدي وهو يضع الفرشاة الضخمة في سطل من الدهان الأبيض ليكسو الشعارات المناهضة للرئيس وللإخوان المسلمين، رافضا أن يكتفي بإزالة الشعارات، على أن يترك الرسوم.
وازدهر فن الغرافيتي متأثرا بمناخ الحرية النسبية الذي تلى سقوط مبارك، فخرج إلى النور كثير من الفنانين الذي كانوا يعملون في الخفاء وأصبحوا يرسمون في وضح النهار.
وباستثناء نفر قليل معروف بأسمائه الحقيقية مثل عمار أبو بكر وعلاء عوض فالأغلبية العظمى اتخذت أسماء مستعارة لتفادي ملاحقة الأمن لهم.
ومن أشهر هؤلاء محمد فهمي وشهرته "جنزير" ويوسف الحسيني "كايزر" وحاتم "ساد باندا" و"الزفت" و"التنين" و"المشير".
"لكل فنان لمسته الخاصة حسب تعليمه وبيئته حتى أن فناني مدينة الإسكندرية يرسمون الرموز التي تميزها مثل البحر"، كما يقول أحمد بيرو.
في جدارية "جنزير" في حي الزمالك بالقاهرة، دبابة ضخمة تصوب فوهة مدفعها إلى شاب يركب دراجة ويحمل لوحا من الجريد مثلما يفعل بائعو الخبز في مصر. ولكن بدلا من الأرغفة يحمل الشاب في اللوحة نساء ورجاال وشبابا يمثلون الشعب المصري.
ويشرح أن الجدارية تمثل "المواجهة التي وضع المجلس العسكري نفسه فيها بكل عتاده مع الشعب الأعزل المطالب بالحرية فقط".
أما "ساد باندا" فإمضاؤه هو رسم لحيوان الباندا مثقل الهامة يكسو الحزن وجهه.
"الغرافيتي ليس حكرا على الرجال، فهناك العديد من النساء االواتي يركزن خاصة على قضايا التحرش ودور المرأة ومساواتها بالرجل"، كما تؤكد كريستين صفوت.
"بصفتي مسيحية أهتم كثيرا بالوحدة الوطنية ومحاولات زرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في مصر"، حسب صفوت.
ومن أشهر فنانات هذا المجال آية طارق وهند خيرة وبهية شهاب وميرا شحادة وليلى ماجد.
"الغرافيتي يوصل رسالة بشكل مبسط إلى أبسط الناس، للمثقف وللمتعلم، حتى أن من لا يفهم الكلام أو لا يستطيع القراءة يفهم الرسم، ويخرج من الموقف على الأقل بضحكة"، حسب الرسام عمرو المليجي.
وإن كانت الضحكة لا تزال حاضرة، إلا أنها تتراجع أمام صور الشهداء الذين سقطوا في المواجهات التي تلت الثورة بين الأمن والمعارضة.
وتتصدر الأن في شارع محمد محمود لوحة تظهر الشيخ عماد عفت ومينا دانيال وهما يمدان أيديهما لبعض، وبينهم سرب من الشهداء. وكلما يسقط قتيل تضاف صورته إلى الحائط حتى ضاقت الجدران.
في مدونتا "سوزي في المدينة" المخصصة للغرافيتي تعرب ثريا مريف عن حزنها مما يدل عليه هذا الإتجاه من تغيير سلبي.
"على مدار العامين الماضيين، كان شارع محمد محمود وميدان التحرير متحفين لذكريات الكثيرين منا، خاصة من خلال الغرافيتي. لكن اليوم، أصبح المكانان أشبه بمتحف للأشباح، ليس فقط أشباح من ماتوا، ولكن لشبح النضال والأمل في التغيير".
وتضيف "هما أيضا متحف لشبحي أنا كمصرية، شعرت في يوم ما أنها جزء من شيء عظيم يغير الحياة، والآن لم يبق لها منه سوى وجوه على الجدران".